الخبريَّة: (أَرَأَيْتَ):
هذا الفعلُ مع همزةِ الاستفهامِ استعملَه العربُ بمعنيين، الأولِ بمعنى (الرؤيةِ)، والثاني بمعنى (أخبرني)()، فأَمَّا الأَوّلُ فلا إِشكالَ فيه، فهو استفهامٌ دخلَ على الفعلِ (رأى)، للاستفهامِ عن الرؤيةِ الحقيقيةِ، وأَمَّا الثاني فهو موطنُ الشاهدِ، وأَنَّ دلالتَه تختلفُ عن الظاهرِ وتكونُ بمعنى (أَخبرني)، قالَ الدكتور فاضل السامرائي: ((ومعنى هذا الفعلِ منقولٌ من الرؤيةِ إِلى معنى الإِخبارِ، فقولُك مثلاً: أَرأَيتَ إِنْ أَصبحتَ أَميراً ماذا أَنتَ فاعلٌ؟ معناه: أَنظرتَ في هذا الأَمرِ؟ فأَنتَ تستخبرُه عمَّا سأَلتُه عنه))().
وقد اختلفَ النحاةُ في إعرابِ التاءِ المقترنةِ به – أعني الذي على المعنى الثاني - فذَهَبَ البصريون() إلى أَنَّ التاءَ هي الفاعلُ، وأمَّا الفراءُ() فعدَّها حرفَ خطابٍ لا غير.
قالَ أبوحيَّانَ: (( وإذا كانت بمعنى أخبرني جازَ أنْ تختلفَ التاءُ باختلافِ المُخاطَبِ وجازَ أنْ تتصلَ بها الكافُ مُشعِرةً باختلافِ المخاطَبِ وتبقى التاءُ مفتوحةً كحالِها للواحدِ المذكرِ، ومذهبُ البصريين أنَّ التاءَ هي الفاعلُ وما لحقَها حرفٌ يدلُّ على اختلافِ المخاطَبِ وأغنى اختلافُه عن اختلافِ التاءِ، ومذهبُ الكسائيِّ أنَّ الفاعلَ هو التاءُ وأنَّ أداةَ الخطابِ اللاحقةَ في موضعِ المفعولِ الأولِ، ومذهبُ الفرّاءِ أنَّ التاءَ هي حرفُ خطابٍ كهي في أنت وأنَّ أداةَ الخطابِ بعدَه هي في موضعِ الفاعلِ استعيرت ضمائر النصب للرفع))().
وقد جاءَ هذا الأسلوبُ في القرآنِ الكريمِ في مواضعَ عديدةٍ، منها على سبيلِ التمثيلِ قولُهُ تباركَ وتعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين)()، قالَ الطبريُّ: ((قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِاللَّهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، أَخْبِرُونِي إِنْ جَاءَكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ عَذَابُ اللَّهِ، كَالَّذِي جَاءَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ هَلَكَ بَعْضُهُمْ بِالرَّجْفَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالصَّاعِقَةِ، أَوْ جَاءَتْكُمُ السَّاعَةُ الَّتِي تُنْشَرُونَ فِيهَا مِنْ قُبُورِكُمْ وَتُبْعَثُونَ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، أَغَيْرَ اللَّهِ هُنَاكَ تَدْعُونَ لِكَشْفِ مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ تَفْزَعُونَ لِيُنْجِيَكُمْ مِمَّا نَزَلَ بِكُمْ مِنْ عَظِيمِ الْبَلَاءِ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين)()، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِي دَعْوَاكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَنَّ آلِهَتَكُمُ الَّتِي تَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ))().
وقولُهُ (: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)()، قالَ البغويُّ: (( (قَالَ) يَعْنِي: إِبْلِيسُ (أَرَأَيْتَكَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي، وَالْكَافُ لِتَأْكِيدِ الْمُخَاطَبَةِ (هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) أَيْ: فَضَّلْتَهُ عليَّ (لَئِنْ أَخَّرْتَنِي) أَمْهَلْتَنِي (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) أَيْ: لَأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ بِالْإِضْلَالِ يُقَالُ: احْتَنَكَ الْجَرَادُ الزَّرْعَ إِذَا أَكَلَهُ كُلَّهُ وَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ حَنَّكَ الدَّابَّةَ يُحَنِّكُهَا: إِذَا شَدَّ فِي حَنَكِهَا الْأَسْفَلِ حَبْلًا يَقُودُهَا أَيْ: لَأَقُودَنَّهُمْ كَيْفَ شِئْتُ وَقِيلَ لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْوَاءِ (إِلَّا قَلِيلًا) يَعْنِي الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)() ))().
وذهبَ السيوطيُّ إلى رأي البصريين()، فقالَ: (( (أرأيتَ) هي بمعنى أخبرني، ويجبُ في التاءِ إذا لم تتصلْ بها الكافُ ما يجبُ لها مع سائرِ الأفعالِ من تذكيرٍ وتأنيثٍ وتثنيةٍ وجمعٍ))()، وذلك في التعليقِ على تركيبِ (أَرأَيت) الواردِ في الحديثِ الشريفِ الذي روته أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ الصديقِ - رضي الله عنهما- الذي نصُّه:
« أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللهِ (، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (: إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ ثُمَّ لتَنْضِحْهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ لِتُصَلِّ فِيهِ »().
قالَ الرضي: ((وتلحقُ الكافُ الحرفيةُ بـ(أرأيتَ) الذي بمعنى أَخبرْ، لأَنَّه لمَّا صارَ بمعنى أَخبر، كانَ كاسمِ الفعلِ المنقولِ إِلى الفعليةِ عن شئ آخر، نحو: النجاءَك، فاستُغنيَ بتصريفِ الكافِ تثنيةً وجمعاً وتأنيثاً عن تصريفِ تاءِ الخطابِ، فبقيت التاءُ في الأحوالِ مفردةً مفتوحةً، سواء كان المخاطبُ مذكراً، أَو مؤنثاً، مفرداً، أَو مثنى، أَو مجموعاً))().
وأَوجَبَ السيوطيُّ للتاءِ الملحقةِ بهذا الفعلِ ما يَجِبُ لها مع سائرِ الأفعالِ، من تذكيرٍ وتأنيثٍ وتثنيةٍ وجمعٍ، إِذا لم تتصل بها الكافُ؛ لأَنَّ مذهبَه() في هذا الفعلِ الذي بمعنى (أَخبرني)، أَنَّ التاءَ هي الفاعلُ؛ ولهذا أَوجبَ لها من العلاماتِ ما يجبُ مع سائرِ الأَفعالِ، وهو مذهبُ البصريين()، وكذلك ابنُ جني عدَّ هذه الكافَ حرفَ خطابٍ في هذا التركيب().
ثمَّ إِنَّه بقولِه هذا أشارَ إِلى الخلافِ في هذه التاءِ، قالَ الصبانُ: ((تتصلُ هذه الكافُ الحرفيةُ بأرأيتَ بمعنى أخبرني، لا بمعنى أَعلمت، مغنيًا لحاقَ علاماتِ الفروعِ بها عن لحاقِها بالتاءِ، والتاءُ حينئذٍ اسمٌ مجردٌ عن الخطابِ، ملتزمٌ فيه الإِفرادُ والتذكيرُ، هو الفاعل، وعكسَ الفراءُ فجعلَ التاءَ حرفَ خطابٍ والكافَ فاعلًا، وقالَ الكسائيُّ: التاءُ فاعلٌ والكافُ مفعولٌ))().
وممَّن عدَّ هذه الكافَ حرفَ خطابٍ وليست ضميراً المبردُ، إِذ قالَ: ((اعْلَم أَن هَذِه الْكَاف زَائِدَة زيدت لِمَعْنى المخاطبة وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنَّك إِذا قلت: أرأيتك زيدا فَإِنَّمَا هى أَرَأَيْت زيدا؛ لِأَن الْكَاف لَو كَانَت اسْما اسْتَحَالَ أَن تعدى (رَأَيْت) إِلَى مفعولين: الأول والثانى هُوَ الأول وَإِن أردْت رُؤْيَة الْعين لم يَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مفعول وَاحِد، وَمَعَ ذَلِك أَن فعل الرجل لَا يتَعَدَّى إِلَى نَفسه، فيتصل ضَمِيره إِلَّا فى بَاب ظَنَنْت وَعلمت))().
والراجحُ مذهبُ البصريين وهو أَنَّ التاءَ هي الفاعلُ، وأَنَّ الكافَ حرفٌ لا محلَّ له من الإِعرابِ، زيِدَ لمعنى المخاطبة؛ لأَنَّ التاءَ محكومٌ لها بالفاعليةِ في غيرِ هذا الفعلِ بإجماعٍ، ولم يُعهدْ ذلك في الكاف