في 25 إبريل 1481م خرج السلطان محمد الفاتح من قصره بإسطنبول لحملة عثمانية جديدة، ولكنه توفي بعد خروجه بأيَّام قليلة وتحديدًا في يوم 3 مايو من نفس العام، وصعدت روحه إلى بارئها، وآن لجسده المرهق أن يستريح بعد رحلة معاناةٍ طويلةٍ تجاوزت الثلاثين سنة في حكم الدولة العثمانية.. معارك كثيرة.. وأمراض شديدة.. وجهاد وسفر.. وأعداء وسهر.. ولكن لا بُدَّ لكلِّ رحلةٍ مهما كانت شاقَّة من نهاية.. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185]، وهكذا انتهت حياة الرجل الذي أعزَّ الله به أمَّة الإسلام عقودًا متتالية، بل ثبَّت الله به أركان الأمَّة لعدَّة قرون، وليس عجيبًا أن يكون موته يوم احتفال عند أعداء الأمَّة، فلقد كانت حياته كابوسًا مزعجًا لهم.
مات النسر العظيم! (محمد الفاتح)
بعد وفاة السلطان محمد الفاتح بيوم واحد كتب سفير البندقية رسالة إلى مجلس الشيوخ في بلاده، وكان في الرسالة جملة واحدة: «مات النسر العظيم»، وصل حامل الرسالة إلى القصر الحاكم في البندقية في 29 مايو 1481م فأُخْبِر أنَّ رئيس الجمهورية في اجتماع مع مجلس الشيوخ، فلم ينتظر حامل الرسالة، بل اندفع بقوَّةٍ داخل حجرة الاجتماع صارخًا: مات النسر العظيم، وبعد أن قرأ رئيس الجمهوريَّة الرسالة أعطى أوامره مباشرةً بدقِّ الجرس الأعظم في الكنيسة، وهذا الجرس لا يُدَقُّ إلَّا في ظروف معيَّنة محدودة؛ مثل وفاة رئيس الجمهورية، أو قدوم عدوّ إلى أبواب المدينة، أو تحقيق نصر للجمهورية.
فرحة أوروبا بموت محمد الفاتح
انتشر خبر الوفاة في البندقية كلِّها وبدأت أجراس الكنائس كلها تُدَقُّ بالاشتراك مع الجرس الأعظم احتفالًا بموت محمد الفاتح الذي عُرِفَ عندهم بالتركي العظيم، وأرسل رئيس الجمهوريَّة فورًا رسالةً إلى البابا في روما، ولمـَّا وصلته الرسالة أمر بإطلاق المدافع وبدقِّ أجراس روما كلها، ثم استدعى كل السفراء، للقيام بمسيرةٍ حاشدةٍ، وفي الليل أُضيئت روما بالألعاب النارية مع استمرار دقّ الأجراس وصلوات الشكر في كل الكنائس.
أمَّا سعادة فرسان القديس يوحنا[1]فقد فاقت الحدود، ولذلك اجتمعوا مبتهجين في يوم 31 مايو 1481م يستمعون لخطبةٍ طويلةٍ خطبها فيهم أحد زعمائهم، وبدأها بحمده للربِّ على أنَّ جرح النصرانية المسموم قد اندمل، وأنَّ النار المشتعلة قد أُخمدت، وأنَّ الثعبان المتوحِّش وأسوء أعداء الصليب محمدًا الثاني قد مات، ثم أكمل خطبةً طويلةً مليئةً بالسباب والقذف؛ وصف فيها محمد الفاتح بأنَّه تابع للشيطان، مع صفاتٍ أخرى كثيرة تخرج عن حدود الألفاظ الطبيعيَّة، حتى أنَّ هذه الخطبة قد وُصفت بأنَّها خطبة لاذعة وتُعَدُّ نموذجًا للقدح والذمّ.
ولقد لخَّص المؤرِّخ الإنجليزي استيفين تيرنبول رؤية الأوروبيِّين لموت الفاتح بقوله: «لم تكن القوَّات متعدِّدة الجنسيَّة التي يُحاول البابا أن يُكَوِّنها لتحفظ إيطاليا؛ إنَّما الذي حَفِظَ إيطاليا على وجه الحقيقة هو موت محمد الفاتح»، ولم تكن هذه الراحة النصرانية في إيطاليا فقط؛ بل انتشرت في أوروبا كلِّها. يقول چون فريلي: «عمَّت الألعاب الناريَّة، وأصوات أجراس الكنائس، كلَّ شمال أوروبا؛ لقد مات التركي العظيم، ولا تحتاج أوروبا إلى الخوف بعد اليوم»، أيضًا تقول المؤرِّخة الإنجليزيَّة إليزابيث ستون: «عندما علم البابا بموت محمد الفاتح أمر بصلوات الشكر لمدَّة ثلاثة أيَّامٍ متتالية. لقد استراحت النصرانية من أشدِّ أعدائها صعوبة».
محمد الفاتح في عيون المنصفين
ومع كلِّ هذه المظاهر من الفرحة الأوروبِّيَّة لموت الفاتح فإنَّ المفكِّرين والدبلوماسيِّين المنصفين كانوا ينظرون إلى الأمور نظرةً متوازنةً تُمكِّنهم من اكتشاف مواطن العظمة في القادة والزعماء، وهذا هو الذي دفع الدبلوماسي الفرنسي الشهير، والمؤلِّف الفذ، فيليب دي كومينز أن يقول في مذكِّراته: «إنَّ أعظم ملوك أوروبا في القرن الخامس عشر هم: محمد الفاتح، ولويس الحادي عشر ملك فرنسا، وماتياس ملك المجر»، قال هذا الكلام مع أنَّه كان يعمل في البلاط الملكي للملك الفرنسي لويس الحادي عشر، وهذا يُمكن أن يُسبِّب له حرجًا، ولم تكن هذه النظرة خاصَّة بفيليب دي كومينز وحده، بل بكثيرٍ من الكُتَّاب الأوروبيِّين، والمفكِّرين الغربيِّين، وهذا ما دفع المؤرِّخ الإيطالي أنتوني دي إيليا أن يقول: «إنَّ انتصارات محمد الفاتح السريعة وطموحاته الثقافيَّة، حضَّت الكُتَّاب النصارى على مقارنته بالإسكندر الأكبر».
إنَّه لا يُمكن تجاهل مثل هذا الشخصيَّة الفذَّة، ولا إنكار أثرها الفريد في العالم، ولذلك عندما قرَّر المؤرخ الأميركي ديڤيد ديل تيستا أن يكتب مع رفقائه موسوعة عن أهمِّ القادة والحكَّام والسياسيِّين في العالم، الذين أثَّروا في حركة التاريخ في الأرض، اختار مائتي شخصيَّة من كلِّ العصور، منذ فجر التاريخ حتى زماننا المعاصر، وكان من بين الشخصيَّات محمَّد الفاتح، وكتب في مقدِّمة حديثة عنه: «محمَّد الفاتح هو المؤسِّس الحقيقي للإمبراطوريَّة العثمانيَّة، وهو الذي ثبَّت دعائمها في شرق البحر المتوسط، كما أنَّه هو الذي رسَّخ الشخصيَّة السياسيَّة والحضاريَّة للإمبراطوريَّة التي ظلَّت باقيةً حتى القرن العشرين».
مات محمد الفاتح.. لكنه ظلَّ باقيًا بسيرته وجهاده
هكذا كَتَب اللهُ لقصَّة محمَّد الفاتح النهاية في 3 مايو 1481م، لكن لم ينته الحديث عنه بموته، بل ظلَّ باقيًا، بسيرته، وكفاحه، وجهاده، وصبره، ومصابرته، وما أبلغ الكلمة التي قالها المؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي تعليقًا على موت محمد الفاتح قائلًا: «يكمن جسد الفاتح في القبر، ولكن روحه تسير»، أيضًا المؤرِّخ المصري ابن إياس الذي كان معاصرًا لحقبة محمد الفاتح قال كلمات لها وقعًا خاصًّا في النفوس، حيث قال: «جاءت الأخبار بوفاة السلطان المعظَّم، المفخَّم، المجاهد، الغازي، ملك الروم، وصاحب القسطنطينية العظمى، وهو محمَّد بن مراد بن أبي يزيد بن عثمان، وكان ملكًا جليلًا معظَّمًا، ساد على بني عثمان كلِّهم، وانتشر ذكره بالعدل في سائر الآفاق، وحاز الفضل، والعلم، والعدل، والكرم الزائد، وسعة المال، وكثرة الجيوش، والاستيلاء على الأقاليم الكفريَّة، وفتح الكثير من حصونها وقلاعها..»، رحم الله المجاهد الكبير السلطان محمد الفاتح[2].
[1] فرسان القديس يوحنا: يُعرفون أيضًا بفرسان المعبد وهم من أشدِّ المقاتلين ومن أصحاب التاريخ العدائي الطويل مع المسلمين بشكل عام ومع الدولة العثمانية بشكل خاص، حيث كانوا يتبعون البابا بشكلٍ مباشر وكانوا يُسيطرون على جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط، وهم قريبون جدًّا من ساحل الأناضول؛ ومِنْ ثَمَّ يمثِّلون خطرًا حقيقيًّا على الدولة العثمانيَّة لقربهم منها.
[2] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح.