رحلات طويلة فى البحر بدون بواخر:
تطورت الملاحة فى العصور القديمة، حتى قبل أن يتعلم الإنسان أن يصنع البواخر: ومثل المركب "رع" يساعدنا على أن نفهم بصورة أفضل هذا الأمر الذى يثير الدهشة. الأدلة على هذه التنقلات حول المتوسط وفى الأنهر، عديدة أبتداء من الألف الثالث قبل الميلاد.
ما هو نوع المراكب التى كان يستعملها الملاحون كى يبحروا؟؟؟ وما هى الوسائل الفنية التى كانوا يستعملونها لصنع هذه المراكب؟؟؟
إن الجواب على هذه الأسئلة مهم لأن تاريخ الملاحة يتطابق إلى حد بعيد مع تاريخ أنتشار المدنية.
أعتدنا أن نفكر أن بالمصريين كمجرد شعب زراعى. لكن مصر كانت أيضاً اول قوة بحرية فى التاريخ. أصبحنا نعلم أن النيل، هذا النهر الهادئ و الصالح للملاحة على مئات الكيلومترات، " أوتوستراد " مصر القديمة: أطواف خفافات، زوارق، ومراكب شراعية كانت تمخره طوال السنة، منذ أقدم العصور هكذا بدأت الملاحة فى الأنهر قبل أن تغامر فى البحار، وسرعات ما تخطت المراكب المصرية الدلتا. فخلال فترة طويلة، أستعملت أطواف من البردى شبيهة بطوف ثور هييردال.
لكن منذ سنة 3300 قبل الميلاد، بدأ المصريون بصنع المراكب الخشبية. بعد ذلك بستة قرون، حوالى 2700 قبل الميلاد، أيام الفرعون سنافيو، كان بوسع الأسطول المصرى أن يشن هجمات ضد المدن الساحلية فى سوريا و لبنان، ويعود محملاً الغنائم.
كانت الملكة حتشبسوت أحدى الملكات اللواتى طبع عهدهن تاريخ مصر، وقد ملكت من 1503 إلى 1482 قبل الميلاد، و المعبد المشيد على قبرها فى دير البحرى هو من أغنى المعابد بالمنحوطات و الرسوم. على جدرانه تروى الحملة التى جرت حوالى سنة 1500 قبل الميلاد و التى كان لها دوى هائل. أسطول مؤلف من 5 سفن كبيرة ( ليست من دون شكل أكبر من سفن الصيد حالياً) توجه نحو جنوبى البحر الأحمر ووصل أرض البونت العجيبة التى يقولون إنها تقع فى الصومال أو فى زيمبابوى.
حملت السفن هناك عبيداً وذهباً و بهاراً وبخور و قرود مروضة، فكانت عودة الملاحين مثمرة. الملكة حتشبسوت قررت تخليد هذه المفخرة بلوحات جدرانية.
وفى مطلع الألف الثالث قبل الميلاد أستقر شعب على الشريط الساحلى من لبنان الحالى. وقد تخصص فى تجارة مادة مطلوبة بكثرة، لونها أحمر قان وتستعمل كملون : هو صباغ الأرجوان الذى كان مادة تصدير هامة.
و اليونانيون ظلوا طويلاً منافيسهم على طرقات البحر الأبيض المتوسط التجارية. بما أن ملاحى الساحل اللبنانى كانت لهم، مثل كل البحارة، بشرة سمرتها الشمس، فقد أطلق عليهم اليونانيون، تهكماً، اسم " فينيقيين، أى " الحمر ". ولكن الحقيقة هى أنهم كانوا يشعرون أتجاههم بالحسد، لأن الفينقين ظلوا طيلة قرون أسياد البحر.
و أشتهر الفينقيون بحويتهم و إقدامهم وقد وصلوا فعلاً إلى أصقاع بعيدة عن موطنهم.
كانت فنيقيا أرض خصبة، ولكن وجودها محصورة بين الجبل و البحر جعلها تفتقر إلى سهول واسعة للزراعة، فلم يكن أمام سكانها من خيار سوى الانطلاق فى التجارة البعيدة عبر البحر، وهذا الخيار سهلته الظروف أيضاً، فسفوح الجبال فى المناطق الداخلية كانت توفر بوفرة الخشب الذى يساعد فى بناء السفن المتينة، كما وفرت الشواطئ جوينات تقام فيها الموانئ.
وكان الخشب أهم منتجاتهم التصديرية. ثم أضافوا إليه منتجات أخرى و أصبح أختصاصهم المعروف الأرجوان، كما أظهروا مهارة خاصة فى صنع الأوانى الزجاجية المتنوعة. كما تاجروا بالتمور التى كانت فى ذلك الوقت طعاماً مهماً.
إلا ان "سائقى عربات البحر " الحقيقين هؤلاء، والذين كانوا يتحولون أحياناً إلى غزاة و فاتحين، كانوا ينقلون أيضاً مختلف أنواع المحصولات للتجارة بها. فمن مصر كانوا يعودون بزروع يبعونها فى قبرص و كريت. كما كانوا يشحنون قضباناً و سبائك نحاسية بأتجاه موانئهم، ويبادلون هذه البضائع بمنتجات حرفية أو أوان برونزية واردة من بلاد ما بين النهرين. علاوة على ذلك، غالباً ما كانت سفنهم الضخمة تنقل مواشى للذبح و عبيداً جرى أسرهم من المدن البعيدة.
يخشى غذا ما وقع زورق ذو حجم كبير بين موجتين فى عرض البحر، أن يتحطم عند وسطه. و الأمر كذلك عندما لا تحمل الموجة السفينة إلا فى جزئها الأوسط، فيما مقدم السفينة ومؤخرها يظلان معلقين فى الفراغ.
من أجل تلافى هذه الكارثة، ركز البناؤون جهودهم على الهيكل المركزى الذى حاولوا أن يجعلوه أكثر صلابة و متانة، حتى تتمكن السفينة من مواجهة عرض البحر بأقصى حد من السلامة.
حاول المصريون حل المشكلة عن طريق مد كابل كبير من مقدم السفينة إلى مؤخرها، على طريقة وتر القوس. إلا ان النتائج لم تكن مرضية إلا بدرجة قليلة. ولذلك، لم تكن السفن المصرية لتغامر بركوب عرض البحر إلا نادراً، مكتفية بملاحة الساحلية.
و الفينقيون كانوا بدون شك أول من أستعمل الصالب فى صناعة السفن، كان البناؤون الفينقيون يضفون من كلتى جهتى هذا الهيكل أقفاصاً يغطونها بألواح خشبية تشكل جناحى السفينة.
فالتحسينات التى أدخلها هذا التجديد التقنى كانت حاسمة :
- السفينة، بفضل شكلها المستطيل وصلابتها، كانت تجابه بشكل أفضل ضربات البحر.
- الجناحان المرتفعان كانا يحميان بفاعلية البضائع و البحارة.
- مقدم السفينة الدقيق، و الصالب الذى كان يخترق الماء عميقاً، كانا يسمحان بالملاحة حتى مع ريح منحرفة، بينما حتى ذلك الوقت كان الدفع لا يتم إلا بريح مؤاتية.
وبهذا قدم الفينقيون للعالم مآثرة مهمة بالإضافة إلى مآثرهم الكثيرة.
الملاحون و التجار كانوا ينشرون ليس فقط بضائعهم، و إنما أيضاً معتقادتهم و معارفهم. المراكز الحضارية المختلفة فى العالم القديم - بلاد ما بين النهرين، مصر، بلدان المشرق و كريت - و التى كانت على أتصال فيما بينها بفضل المبادلات التجارية، أستوعبت طرق العيش لدى جيرانها، و أتجهت هكذا إلى الأنصهار فى مجمع حضارى واحد.
لم يتوصل الفينقيون أبداً إلى إنشاء دولة موحدة، فمدنهم أحتفظت بأستقلالها، ولو أن الأهم بينها - أوغاريت، بيبلوس، صور، صيدون - نجحت فى بعض الأوقات فى السيطرة على سواها.
بالمقابل، فأنهم أسسوا مستعمرات عديدة فى بحر إيجيه، و على شواطئ أفريقيا وفى صقلية و أسبانيا و البرتغال و سردينيا. وقد غامروا بالوصول إلى الجزر البريطانية، حيث كانوا يعودون بالنحاس، المعدن المرغوب فيه كثيراً فى ذلك الوقت و الذى كانوا يجدونه بوفرة فى كورنواى.
لكن الفينقيين لم يكونوا وحدهم ينطلقون فى رحلات طويلة. فمنذ 2500 سنة، كانت الطرق التجارية تشكل عكاشاً ضخماً كان يغطى جزءاً كبيراً من أوروبا و الشرق الأدنى.
وكانت الطرق التجارية البرية التى كانت تسلك مجارى الأنهار الكبيرة، نادراً ما كانت الطرق البرية تبتعد عنها. و الواقع أن التجرا قديماً كانوا يفضلون سلوك الكرق المائية مستخدمين الأطواف و الزوارق، ذلك أن الطرق البرية، إن وجدت لم تكن إلا مسالك وعرة. وفيما عدا بعض الأستثناءات، لم تكن تلك الطرق صالحة للعربات ذات العجلات، وبالتالى كان التجار أو خدامهم مضطرين لحمل البضائع على الأكتاف، أو على الحمير و الجمال، خاصة فى المناطق الوعرة و القاحلة.
كانت القوافل الطويلة تقطع المسالك الرملية أو المحصبة ببطء، و تتجه إلى مختلف المناطق المعروفة آنذاك، وخاصة إلى المدن الفينقية القائمة على ساحل البحر المتوسط.
كان لتطور المبادلات التجارية نتائج مهمة فى عدة حقول، فقد قامت الممالك نظام أوزان و مقاييس سهل المبادلات وساعد على تلافى الغش. كمان أن المثقفين من الفينقيين أخترعوا الحروف الأبجدية التى كانت أعظم أبتكار عرف فى التاريخ القديم.
و الأبتكار المهم أيضاً وضع النقد فى التداول. فحتى ذلك الوقت كانت مقايضة بضاعة بأخرى هى القاعدة. فأستبدل هذا النظام بالدفع، وذلك بواسطة السبائك و القضبان المعدنية: نحاس، قصدير، برونز، ثم فضة و ذهب. إلا ان هذا النظام لم يكن عملياً إلا بقدر ضئيل إذ كان يستدعى فى كل مرة أن يوزن المعدن.
ثم ظهر النقد الحقيقى لأول مرة بالقرن السابع قبل الميلاد فى مدن مختلفة من الشرق الأدنى. وكان عبارة عن أقراص من الفضة، و الذهب، و النحاس و البرونز. وكانت هذه القطع المنقدية مضمونة من قبل الملك الذى كان لهذا السبب، يطلب حفر صورته عليها. بهذه الطريقة أنتشر النقد فى العالم أجمع، و أصبح رمزاً ليس للقيمة التجارية فحسب، و إنما للثروة أيضاً.
وخلال زمن طويل من التطور النقدى فى العالم، لا يزال حتى يومنا وفى بلدان عديدة، يعتبر الذهب، ركيزة مهمة و أساسية للتغطية النقدية لهذه البلدان.