الفرضية المُحرَّمة.. هل تمتلك الحيوانات وعيًا مثلنا؟



افترض أن هناك فأرًا موضوعًا في قفص، للقفص جانبان، أحدهما مظلم والآخر مضاء؛ تمت برمجة الجهاز العصبي للفأر عبر ملايين السنين بأن يختار دومًا الجانب المظلم للبقاء فيه، وذلك لأسباب تطورية مفهومة؛ فعليه أن يتجنب البقاء في الجانب الذي يمكن مشاهدته فيه؛ ذلك لأن سلاح الفأر الأهم للبقاء هو البقاء بعيدًا عن المفترسات. في التجربة التي نستعرضها، يُعرَّض الفأر لصدمة كهربية كلما اقترب من الجانب المظلم. بعد عدد معين من الصدمات، فإن الفأر – على عكس طبيعته – يختار التواجد في الجانب المضيء. إننا نعلم أن الفأر الآن قد تعلم أن يتجنب هذا الجانب، وأن غريزته لم تتغير ليخشى الظلام الآن.

إذا كنا قادرين على تخيل أن هذا الفأر أصبح إنسانًا، فإنه سوف يخبرنا أنه أصبح
خائفًا من الصدمات الكهربائية التي يتعرض لها في الجانب المظلم. الخوف هنا هو حالة شعورية تحرك هذا الكائن، وجعلته يتخذ قرارًا يبدو واعيًا. نحن نعلم أن البشر لديهم الوعي لأننا نمتلك المشاعر، ونتخذ القرارات بعد أن نفكر في المقدمات والنتائج، كما أننا نمتلك شعورًا بأنفسنا وبحالتنا النفسية؛ هذا الشعور بأنفسنا جعلنا نصبح متأكدين من أن كل البشر من حولنا لديهم الوعي بأنفسهم مثلنا، لكننا في المقابل لم نستطع إيجاد الآلية التي تخول لنا دخول أدمغة تلك الحيوانات من حولنا لنعرف كيف تفكر أو إن كانت تمتلك مثل هذا الوعي بذواتها أم لا؟

تجارب المرآة.. الحيوانات تدرك نفسها

أجرى عالم الأحياء «جي جي جالوب»
دراسته الشهيرة على مجموعة من أفراد الشمبانزي، وعرَّض مجموعات من حيوان الشمبانزي للمرآة لقياس مدى وعي تلك الكائنات وقدرتها على التعرف على صورتها في المرآة، وقد نشر نتائج دراسته التي أثبتت قدرة قردة الشمبانزي بنسبة كبيرة بين الأفراد الذين أجريت عليهم التجربة، أن تدرك صورتها في المرآة.

بعد هذه التجربة، أُجريت العديد من التجارب المماثلة على مجموعات كبيرة من الفصائل. جاءت النتائج متشابهة في الكثير من الأحيان، حيث بدأت الحيوانات بإصدار ردة فعل اجتماعية تميل إلى العنف حتى مع تكرار التجربة، واختلف الأمر مع بعض الفصائل من القردة العليا، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد تكرار تعرض أفراد تلك الفصائل للمرآة مرات متعددة، ومع تكرار التجربة لنفس الفصيلة، يقل بالتدريج السلوك الاجتماعي، ويستخدم الأفراد المرآة مع الوقت في التعرف على أجزاء مختلفة من أجسادهم.

أجريت هذه التجارب مع تعديلات بسيطة مثل إضافة أدوات لا تظهر للحيوان بشكل مباشر لكنها تظهر في المرآة. تسبب ذلك في زيادة ردود الفعل المتجهة نحو الذات عند الحيوان، وهو ما يدل على استكشاف أعمق للجسد من قبل أفراد تلك الفصائل. أجريت هذه
التجارب على فصائل إنسان الغاب والشمبانزي القزم.

النتائج التي خرجت بها تلك التجارب مع والغوريلا والجيبون كانت متباينة، حيث أخبر بعض الباحثين بنتائج إيجابية وبعضهم بنتائج سلبية على الأقل على مستوى بعض الأفراد. الجدير بالملاحظة هنا أنه حتى في الفصائل التي رُصد الوعي بالذات فيها مثل الشمبانزي، فإن النتائج الإيجابية لم تُرصد على مستوى كل الأفراد محل التجربة، وتبلغ النسبة بين الأفراد البالغين الشباب نسبة 75%، بينما تكون النسبة أقل بكثير في الأفراد المسنين وصغار السن. أجريت هذه التجارب على بعض الثدييات غير القردة العليا مثل الدلافين والأفيال وأظهرت نفس النتائج من حيث القدرة على إدراك الذات.

الغراب.. كيف أصبح بهذا الذكاء المرعب؟!

في جزيرة تبعد 2000 ميل عن شرق أستراليا، تقبع مجموعة من الجزر تسمى كاليدونيا الجديدة، تتميز بالمناظر الطبيعية الجميلة ويكسوها اللون الأخضر المنعكس على صفحات المياه المائلة للون الأزرق، لكن ذلك ليس أهم ما يميز تلك الجزر، حيث توجد هناك فصيلة من الغربان التي تعتبر ملوكًا للسماء الفرنسية، هذه الطيور تمتلك، بشكل مثير للدهشة، القدرة على حل ألغاز منطقية مثلها مثل طفل في عمر السابعة، فهي تستطيع بناء الأدوات الخاصة بها واستخدامها بشكل يجعلها تستطيع تحقيق غايات معينة، وقد تعلمت هذه الغربان إنه إذا رُمي حجر في كوب ماء فإن مستوى الماء سوف يصعد.


لم تقف هذه الغربان عند هذا الحد من الدهاء، فقد شوهدت أثناء قيامها بما هو أغرب، فقد
ذكرت مجلة «نيو ساينتيست» أن هذه الغربان شوهدت تستخدم أدوات لحمل أشياء وأجسام أخرى، مثل استخدام عصا ووضعها في ثقب كرة معدنية لحملها، وهذه كانت المرة الأولى لرؤية كائن غير بشري يستخدم أداة لحمل شيء أو التحكم بأداة أو جسم آخر.

حول هذا الجدال الدائر في الأوساط العامة وبين المتخصصين، يقول كارل سافينا مؤلف كتاب «
ما وراء الكلمات: ما تشعر وتفكر به الحيوانات» في حواره مع مجلة ناشيونال جيوجرافيك: «إنه أمر لا يصدق بالنسبة لي أنه لا يزال هناك نقاش حول ما إذا كانت الحيوانات واعية، وحتى الجدال حول إن كان البشر يستطيعون معرفة إن كانت الحيوانات غير البشرية واعية. إن كنت تلاحظ الثدييات أو حتى الطيور، فإنك سترى كيف يتفاعلون مع العالم. إنهم يلعبون، يتصرفون بخوف عندما يكون هناك خطر ما، ويسترخون عندما تكون الأمور على ما يرام. يبدو أنه من غير المنطقي بالنسبة لنا أن نعتقد بأن الحيوانات لا تمتلك خبرات عقلية واعية باللعب والنوم والخوف والحب».

داروين كان يعلم الحقيقة

بالنسبة لعلماء الحيوان، فإن نقاشًا حول ما إذا كانت الحيوانات تمتلك وعيًا خاصًا بها قد بدأ بالتزامن مع بداية تخصصهم. لم تكن كلمة تشارلز داروين في كتابه الفريد «
أصل الأنواع» عندما قال: «التعبير عن العواطف فى الإنسان والحيوانات» مجرد تعبير عن بداية فصل جديد في علوم الحيوان، لكن الأمر امتد إلى خلق نقاش وجدل عن الجذور الفلسفية العميقة لفكرة الوعي لدى الكائنات الحية.


لقد كانت النظرة الرئيسة لهذه القضية هي الميل لتجريد الكائنات غير البشرية من ميزة الوعي التي يتفرد بها الإنسان، الفيلسوف الفرنسي الشهير« رينيه ديكارت» قال في كتابه «مقال عن المنهج»: «من المرجح أن الديدان والذباب واليرقات تتحرك بشكل ميكانيكي، وليس أنها تمتلك أرواحًا خالدة». علماء آخرون انتهجوا نفس النهج، مثل جون واتسون عالم السلوكيات الشهير والذي كان يرى بدوره أن دراسة الحيوانات يجب أن تُجرى بمعزل عن أي رؤية تتبنى احتمالية وجود أي خيارات سلوكية واعية لتلك المخلوقات، بدلًا من ذلك يُركز على مراقبة أسباب سلوكيات الحيوانات. هذه الرؤية الميكانيكية التصنيفية جعلت أمر دراسة المشاعر في الكائنات غير البشرية غير متاحًا بالأساس، لقد قرروا أنه ليس من المفيد الخوض في أشياء لا نفهمها، فقد سادت هذه النظرة السلوكية الكلاسيكية منذ خمسينيات القرن الماضي، في المقابل كانت هناك أقلية من العلماء يحاولون إثبات إمكانية وجود وعي لدى الكائنات غير البشرية.

من بين هؤلاء العلماء الذين اهتموا بهذه القضية كان جاك بانكسيب، عالم الأعصاب في جامعة ولاية واشنطن، وقد صمم تجربة خصيصًا من أجل هذه الغاية. في ختام مؤتمر فرانسيس كريك التذكاري عن الوعي في الحيوانات البشرية وغير البشرية، أعلن بانكسيب في حضور مستشار البيت الأبيض ومجموعة كبيرة من العلماء على رأسهم الفيزيائي القدير ستيفن هوكينج، أعلن هو وفريقه عن توافر الأدلة العلمية على وجود الوعي لدى الكائنات
غير البشرية.

تفصيلًا لذلك قال بانكسيب إن جميع الثدييات والطيور والعديد من الفصائل الأخرى لديها نفس الهياكل التشريحية للدماغ التي تجعل الوعي أمرًا ممكنًا لدى البشر، بالتالي فإن وجود الوعي لدى تلك الحيوانات هو أمر ممكن.

تأثر بانكسيب في أبحاثه بعالمي النفس الشهيرين بيتر ميلنر وجيمس أولدز، الذين اكتشفا نظام المكافأة في الدماغ باستخدام محفزات معينة لاستكشاف مناطق الدماغ المسؤولة عن شعور الفئران بالمتعة والسرور، فمع الضغط على بعض تلك المناطق تتولد تلك المشاعر الإيجابية التي استخدمها العالمان لتدريب الفئران على سلوكيات معينة تعكس شعور السعادة. اعتقد العالمان أن هذه المناطق في الدماغ هي المسؤولة عن الإدمان.

من هذه النقطة شديدة الإثارة بدأ بانكسيب أبحاثه الخاصة، لكنه لم يكتفِ بمداعبة مناطق المكافأة في المخ. في المقابل، اكتشف مناطق أخرى مسؤولة عن
النظام الشعوري لدى الفئران، وهو الذي يجعل تلك الحيوانات قادرة على استكشاف عالمها والتأقلم شعوريًا معه للحفاظ على بقائها. قام بانكسيب بتسميه هذا النظام بنظام «الاستكشاف»، وهو ليس فقط للبحث والاستكشاف، ولكنه مسئول أيضًا عن الغضب والشهوة ورعاية الصغار والذعر واللعب أيضًا.

هل يخشى العلماء أن يكون للحيوانات وعي؟

كان من الغريب أن يتم تجاهل هذا الموضوع لفترات طويلة، لكن بالنظر إلى تاريخ بعض الحوادث التي كان أبطالها ممن يعتقدون في فرضية امتلاك الحيوانات للوعي والمشاعر وقدرتها على ممارسة سلوكيات بقصد ونية مسبقين. اعتبرت تقارير علمية أن موضوع الوعي لدى الحيوانات كان من الموضوعات
المحرمة في الوسط العلمي. لقد تمت معاقبة جان جودال بسبب أنها قامت بتسمية أفراد الشمبانزي في تجاربها بأسماء بشرية، واعتبر أنها ارتكبت خطيئة تطبيق خبرات بشرية على كائنات غير بشرية. مثل هذا التشنيع الشديد قد حدث مع جون جريفين، العالم الذي اكتشف أنظمة تحديد المواقع بالصوت لدى الخفافيش، وذلك عندما تناول معالجة علمية لنفس القضية.


يفسر هذا اللغز أنتون مارتينو، عالم الحيوان في أكسفورد، أن المشكلة تقع في الطريقة التي تعتمدها المدرسة الإمبريقية في الفلسفة، والتي تعتبر أن المعرفة الحقيقية، هي التي يمكن ملاحظتها وقياسها. هذه الطريقة تتطلب فرضيات قابلة للاختبار، ولكي تكون قابلة للاختبار فإنه على العلماء أن ينظروا فقط للعالم المادي والتفاعلات الظاهرة فيه. من هنا تعتبر هذه المدرسة أن الوعي لدى الحيوانات هو فرضية لا يمكن اختبارها. المفارقة هي أن مارتينو كان قد دون ملاحظاته حول بعض الطيور التي يربيها في المنزل والتجارب التي أجراها عليها، ووجد أنها تتواصل بطريقة ما، لكن القول بأن طريقة التواصل هذه تحقق ما تحققه اللغة لدى البشر كان تصريحًا يتطلب ما هو أبعد من الالتزام بالطريقة الإمبريقية في الفلسفة. لم يستطع مارتينو أن ينقل ما هو مقتنع به هنا إلى مختبره على الرغم من ذلك.

إن اعترافًا بهذا الحجم قد يضع المجتمع العلمي أمام التزامات وأسئلة صعبة، فهل يتم تغيير القوانين المدنية في التعامل مع حيوانات التجارب كما في السابق؟ وهل سيكون ذلك سببًا في وضع المزيد من العوائق أمام البحث العلمي؟ وهل يقبل إنسان القرن الـ21 أن يكون اعترافه بامتلاك الأنواع الأخرى للوعي سببًا يعوقه عن مواجهة تحديات يُعتبر إنجازها ضمانًا لاستمرار الإنسان على الأرض؟

بعد المجهودات الكبيرة التي قدمها بانكسيب وفريقه، ذهب العلماء إلى حد كتابة ما سمي وقتها
إعلان كامبريدج بشأن الوعي والذي أُعلن فيه عن اتفاق مجموعة كبيرة من العلماء الكبار أن الأدلة العلمية تشير إلى أن الحيوانات غير البشرية لديها ركائز تشريحية وكيميائية وفسيولوجية لحالات الوعي مع القدرة على القيام بأفعال مقصودة وبنية مسبقة، وبالتالي فإن وزن هذه الأدلة يدل على أن البشر ليسوا فريدين في امتلاك الركائز العصبية التي تولد الوعي. من هنا، تكون الحيوانات غير البشرية، بما في ذلك جميع الثدييات والطيور، والعديد من الفصائل الأخرى، بما فيها الأخطبوطات، تمتلك أيضًا تلك الركائز العصبية، كما أن الأسماك أيضًا يمكن أن تدخل تلك القائمة بعد الأدلة المقنعة التي ظهرت لتدعم امتلاكها هي الأخرى للوعي.