هكذا أخمدت الولايات المتحدة صوت الحركات المناهضة للحرب
نعرفهم من اللافتات والشعارات التي انطلقت في الولايات المتحدة إبان «حرب فيتنام» وحتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي. صور لفتيان وفتيات في العشرينيات من العمرِ خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة شعارها: «مارسوا الحب لا الحرب». وعلى الرغم من وجودهم التاريخي إبان كل تدخل عسكري قامت به الولايات المتحدة عبر تاريخها؛ فإن الحركات المناهضة للحربِ قد شهدت في الآونة الأخيرة «موتًا إكلينيكيًّا»؛ فما هو تاريخ الحركات المناهضة للحرب، وكيف تمكنت الدولة الأمريكية من وأدها؟
الاحتجاجات على حرب فيتنام مغلفة بموسيقى «الروك آند رول»
«لا أرى أي حلم أمريكي؛ بل كابوسًا أمريكيًّا» *مالكوم إكس، عام 1964
كان هذا الوصف هو الأكثر دقة لما شهدته السياسة الأمريكية في ستينيات القرن الماضي من أحداث. وهو ما يشير إليه بعض المؤرخين المحافظين بأن اليسار قد لعب دورًا في إعادة صياغة الثقافة الأمريكية خلال الستينيات، وهو الأمر الذي نتج منه في النهاية ما عُرف بثورة 1968.
كانت الستينيات عقدًا فاصلًا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ كان العقد الذي شهد العديد من الحركات المناهضة للسياسة الأمريكية، والتي شملت قوة السود والنسوية وحركات تحرير المثليين، وأخيرًا الحركات المناهضة للحرب الأمريكية في فيتنام. كل هذا كان ناتجًا للدور الذي لعبه اليسار الجديد، والذي تكون من جيل كامل يشعر بالاغتراب، ويعبر عن عدم الرضا بالوعدِ الأمريكي.
في ذلك الوقت، ترددت أصداء «الحركة المناهضة للحرب»، وقد كان معظم روادها من الشباب الأمريكي؛ طلاب الجامعات الذين أرادوا بشدة إنهاء الحرب، والتي كانت تعني بالنسبةِ لهم إما الموت، أو العودة بأطرافٍ مبتورة. وقد كانت تلك الحركة هي الأكبر في التاريخ الأمريكي.
(جزء من المظاهرات المناهضة لحرب فيتنام)
كانت تلك الحركة رد فعل لتصعيد الرئيس الأمريكي ليندون جونسون عام 1965، والذي أعلن فيه إرسال المقاتلين الأمريكيين للحرب في جنوب شرق آسيا. تلك الحرب التي حصدت أرواح ما يصل إلى 3 مليون فيتنامي، و50 ألف مقاتل أمريكي، معظمهم قد جرى تجنيدهم إلزاميًّا. حينها امتلأت الشوارع بأعداد لا مثيل لها من الشباب الأمريكي، لتسجيل اعتراضهم على حرب جونسون.
خلال هذا العقد، جاءت الاحتجاجات مغلفة بموسيقى «الروك آند رول» بوصفها لغة تحرير؛ ونشازًا صوتيًّا لشهاداتٍ غنائية تعبر عن الاحتجاج، حينها كانت الموسيقى مصاحبة للحركات المناهضة للحرب والتظاهرات الشعبية. إذ بدأ رواد الموسيقى الشعبية في تسجيل الأغاني التي تعكس رفض الحرب؛ وكان أولهم الفنان الشهير بوب ديلان الذي عبر بموسيقاه خلال الستينيات عن حالة الارتباك الجماعي والإحباط والغضب التي تلت إرسال أبناء العائلات من الشباب والبنات إلى الحربِ.
في أوائل عام 1966، ونتيجة ازدياد أعداد القتلى والمصابين الأمريكيين؛ ازدادت حدة الاحتجاجات على الحربِ الأمريكية حتى وصلت المنازل، وذلك عن طريق جلسات الاستماع التي عقدها السيناتور ج. ويليام فولبرايت عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، وجلبت آراء معادية للحربِ. وفي أبريل (نيسان) 1967، وصل الاحتقان الشعبي إلى ذروته؛ إذ شملت الاحتجاجات جميع أنحاء البلاد، وقد تظاهر في نيويورك وحدها أكثر من 500 ألف شخص معاديين للحرب الأمريكية في فيتنام. وفي أواخر 1967 اقتحم الآلاف البنتاجون الأمريكي وخطوط الشرطة العسكرية وقبض على المئات ممن قادوا الموجة الأولى من المعارضة.
انتشر حينذاك مصطلح «مارسوا الحب لا الحرب». مئات اللافتات رفعت خلال الحفلات الموسيقية الصاخبة التي نظمت احتجاجًا على حرب فيتنام، لافتات تدعو للحب والسلام؛ إذ كانت الحفلات الموسيقية إبان أواخر الستينيات شكلًا من أشكال التظاهر؛ وقد كان أشهرهم تجمع «وودستوك» الموسيقي الذي أعلن إقامة مهرجان موسيقي يهدف إلى دعم الاحتجاج على الحرب؛ إلا أن الأعداد التي توافدت على المهرجان كانت كبيرة جدًّا إلى درجة إلغاء التذاكر الخاصة بالحضور، وجعل التجمع الموسيقي مجانيًّا.
كان الاحتجاج بالموسيقى يروج للسلام والمحبة، وانتشر الجنس والمخدرات والعري في المهرجانات الموسيقية، للتدليل على ثقافة التحرر الجديدة؛ إذ نادى شباب المجتمع الأمريكي في تلك الآونة بالحرية الجنسية تمردًا على المجتمع المحافظ في الخمسينيات. وكان الموسيقيون يستخدمون شهرتهم لنشر رسالة السلام، وتضمنت نغمات موسيقاهم ما يشبه صوت القنابل وإطلاق النار، رمزًا للحرب وتعبيرًا عن الغضب الشعبي.
عندما عاد الجنود من الجبهة، كان واحد من بين كل ستة جنود أمريكان مدمنًا على الهيروين، مصابين بالضجر من الحرب، رافضين للقتال، بعضهم قتلوا الضباط الذين أمروهم بالقتل. وقد انضم الجنود العائدون من المعارك إلى الحركة المناهضة للحربِ، ورووا بالدموع عن الفظائع التي ارتكبت هناك، في لحظة تعد هي الأكثر تأثيرًا.
«خيانة».. مناهضة الحرب العالمية الأولى تفضي بك إلى المحاكمة
على الرغمِ من أن كل ما نعرفه عن الحركات المناهضة للحربِ قد أتى من ثقافة «الهيبيز» في الستينيات، والاحتجاجات على الحرب الفيتنامية؛ فإن الحربين العالميتين الأولى والثانية قد شهدا بعض التمردات على سياسات الحرب، لكنها لم تلق نصيبها من الاهتمام الشعبي والإعلامي، وذهبت طي النسيان.
كانت أولى الحركات المناهضة للحربِ في الولايات المتحدة الأمريكية تتمثل في قلة من الرجال لا تتجاوز أعدادهم بضعة آلاف، وقد وجهت إليهم عدة تهم كان منها إثارة الفتن والخيانة والتآمر، وذلك في الأشهر الثلاث التي تلت دخول أمريكا إلى الحرب العالمية الأولى. وفي سبتمبر (أيلول) من عام 1917، ازدحمت قاعة محكمة سياتل، التي شهدت محاكمات الرجال الذين عارضوا الحرب، وقد وجهت إليهم تهم مثل التآمر على الحكومة الأمريكية، والتدخل في نظام التجنيد العسكري.
(جنود الحرب العالمية الأولى)
كانت الحرب العالمية الأولى تمثل الظهور الأول للولايات المتحدة بوصفهم قوة عسكرية عالمية. حينها عارضت أقلية صغيرة من الاشتراكيين والأناركيين ودعاة السلام «النزعة العسكرية الأمريكية» وفي المقابل واجه هؤلاء أعظم قمع في تاريخ الدولة الأمريكية. وقد هيمن على الحركات المناهضة للحربِ في بدايات القرن العشرين بعض المثقفين والأثرياء، ورجال أعمال بارزين، والمصلحين الاجتماعيين، ورؤساء الجامعات، فكانت تلك الحركات الداعية للسلام حتى عام 1914، حركات مرموقة ذات ثراء ومكانة اجتماعية وعلمية نظرًا إلى أعضائها.
إلا أن الأعوام الأربعة التي سبقت انضمام الولايات المتحدة للحرب العالمية الأولى، قد تغير خلالها التكوين الاجتماعي لتلك الحركات لتصبح أكثر شعبوية؛ وذلك نتيجة للظروف الاقتصادية والخوف الشعبي من التجنيد الإجباري للحرب.
«الحرب بين الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا ستهب السلام للعالم» *صحيفة «سياتل الوطنية» 1917
كان الإعلام الأمريكي في ذلك الوقت يركز على أن الحرب ضد ألمانيا ضرورية من أجل سلامٍ عالمي، وذلك بعدما نكث الرئيس الأمريكي ويلسون بوعده بأن يبقى على الحياد خلال الحرب العالمية، وأعلن رسميًّا في أبريل 1917، انضمام القوات الأمريكية للحرب إلى جانب الحلفاء. حينها ساعد الإعلام في تبرير المشاركة الأمريكية في الحرب بوصفها معركة لأجل الحرية والديمقراطية، وخلال ذلك سعت الإدارة الأمريكية إلى إسكات الآلاف من معارضي الحرب وترحيلهم.
في ذلك الوقت، تخلت الطبقة المرموقة عن نشاطات السلام التي دعت إليها من قبل، وذلك خوفًا على فقدان مكانتهم الاجتماعية، وبالتالي فقدت أغلب الحركات المناهضة للحربِ نفوذها الذي تمثل في الأعضاء ذوي المكانة العلمية والاجتماعية ورجال الأعمال، بعد أن تحول الجميع إلى التبرير للحرب. الأمر الذي اضطر تلك الجماعات إلى تغيير توجهاتهم من محاولة منع الحرب، إلى محاولة التخفيف من آثارها. ولم يبق على الساحة سوى الاشتراكيين الثوريين، ممن رأوا أن الحرب نتاج النظام الرأسمالي، وأبناء الطبقة العاملة هم من يدفعون الثمن.
لم تمض سوى أيام حتى كان الإعلام الأمريكي يصف كل مناهضي الحرب بالخونة، وجرى صياغة عدة تشريعات عرفت بقوانين التآمر والفتنة وقد عززت قمع المعارضين؛ إذ سعت تلك التشريعات إلى سحق أية منظمة أو أفراد يعارضون المجهود الحربي الأمريكي.
أما الحرب العالمية الثانية فقد كانت بداية انتشار الحركات الطلابية، خاصة في ثلاثينات القرن الماضي، والتي تبنت رؤى مناهضة للحرب. وقد كانت أكبر المظاهرات حينذاك هي تلك التي قادها طلاب جامعة واشنطن، وقد بلغ عددهم حوالي ألف طالب، وذلك احتجاجًا على الحرب التي اندلعت عام 1935. وقد سلمت إدارة الجامعة بيانات الطلاب المعارضين للحرب إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي، أما الأمريكيون من أصل ياباني، فقد جرى اعتقالهم، وأُجبر بعضهم على أداء الخدمة العسكرية في اليابان، وكان السجن من نصيب اليابانيين الذين رفضوا التجنيد العسكري.
«الطائرات المُسيَّرة» تُخفض صوت الحركات المناهضة للحرب
في مقالٍ نشرته مجلة «The Nation» الأمريكية، يتناول الحركات المناهضة للحربِ في وقتنا الحالي، يشير إلى أن الحروب الأمريكية لم تنته أبدًا؛ فإذا تناولنا تاريخ الحركات المناهضة للحرب في الولايات المتحدة منذ مطلع القرن العشرين، وجبت الإشارة إلى أن الحروب الأمريكية التي تلت «حرب فيتنام» قد واجهت موجة اعتراضات في الداخل، كان أشهرها مظاهرات الاحتجاج على غزو العراق، والتي اكتسحت الشوارع الأمريكية عام 2003.
في حين أشارت استطلاعات الرأي خلال عام 2017 إلى أن 14% فقط من الشباب الأمريكي البالغ أعمارهم بين 16 إلى 24، يودون أداء الخدمة العسكرية بالتطوع في الجيش الأمريكي، وهو الأمر الذي أثار الريبة داخل وزارة الدفاع الأمريكية، التي تحاول الآن تغيير استراتيجيتها من أجل أن تتناسب والأجيال القادمة؛ حتى لا يتعرض موقف الجيش الأمريكي للتهديد.
تشير المجلة إلى أن رفض الأجيال الجديدة الخدمة العسكرية؛ هو موجة اعتراض جديدة على الحرب؛ خاصة بعد عودة الجنود الأمريكيين مما عرف بـ«الحرب على الإرهاب» في السنوات الفائتة، يملؤهم الشعور باليأسِ والإحباط.
(جزء من التظاهرات ضد جورج بوش وحرب العراق)
كانت الحروب الأمريكية في أفغانستان عام 2001، ومن ثم التعبئة العامة لحربِ العراق هو الظهور الأخير للناشطين المناهضين للحرب. إذ شهد العالم تظاهرة اجتازت حدود المكان، من دول أوروبا، وآسيا، وأستراليا، ونيوزيلندا، 800 مدينة حول العالم قالت: «لا للحرب»، وذلك احتجاجًا على حرب العراق، وقد قدرت أعدادهم ما بين 12 إلى 14 مليون شخص، ليصبح هذا اليوم أكبر احتجاج في تاريخ العالم.
في السنوات الأخيرة، تغيرت أصول «لعبة الحرب»، وتغير معها ملامح الاحتجاج الشعبي. إذ على الرغم من انتهاء الحروب الرئيسية التي شاركت فيها الولايات المتحدة بشكلٍ مباشر؛ فإن الوجود النشط للقوات الأمريكية قد كان حاضرًا طوال السنوات الفائتة في النزاعات الدائرة حول العالم، وذلك دون معارضة تذكر، فهل ماتت الحركات المناهضة للحرب؟
ردًّا على ذلك، تشير بعض الدراسات إلى أن استخدام الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما للطائرات بدون طيار، كان عاملًا حاسمًا في تخفيف حدة الرد الشعبي على التدخل الأمريكي حول العالم؛ إذ كانت تلك السياسة تعتمد على عدم وجود قتلى أو جرحى من بين صفوف القوات الأمريكية، وبالتالي تتجنب الإدارة الأمريكية الغضب الشعبي.
«جاء تصميم الطائرات بدون طيار، وسيلة لقتل الأعداء بدقة متناهية، مع عدم تعريض القوات الأمريكية للخطر»
سمحت الطائرات بدون طيار للجيش الأمريكي التدخل عسكريًّا بسهولة، دون الحاجة للدعم الشعبي أو موافقة «الكونجرس» الأمريكي، بحسب الدراسة. والتي تشير إلى تغير مشاعر العامة تجاه التدخل العسكري في السنوات الأخيرة؛ إذ اعتمدت الإدارة الأمريكية على الذكاء في تأطير قصص الحربِ إعلاميًّا بطريقة لا تثير الغضب الشعبي؛ ولا تتطلب استجابة أخلاقية.
يشير التقرير إلى أن الشعب كان يكره الإكراه على المشاركة في الحربِ؛ يكره صور القتلى والجرحى من أبنائه؛ اليوم تساعده التكنولوجيا الحديثة للطائرات على تجنب رؤية هذه المشاهد؛ حتى وإن قتل في المقابل مدنيون من دولٍ أخرى؛ ففي استطلاع رأي أجرى عام 2012، أيد ما يقرب من 83% من الشعب الأمريكي استهداف «الإرهابيين» المشتبه بهم، عن طريق الطائرات بدون طيار.