ديانات الفينيقيين
كانت ديانة الفينيقيين مجموعة من الطقوس والعبادات تقيمها المدن الفينيقية، وتختلف باختلاف الأمكنة التي تقام فيها، بالرغم من اشتراكها جميعًا في النظرة ذاتها للاله وللظواهر الكونيّة والطبيعيّة.
وكانت طقوس عبادتهم منبثقة عن حياتهم الزراعية وعن اعتمادهم في معيشتهم على الفلاحة وتربية المواشي. وليتمكن الإنسان الفينيقي من مخاطبة القوى المتحكمة بالكون ومخاطره ويستدر عطفها، أضفى على الطبيعة وظاهراتها صفات إنسانيّة وجعلها قريبة منه يسترحمها ويطلب حمايتها ويقدم لها الهدايا والقرابين ليسترضيها بها. وأوجد سلسلة من العبادات ليؤثر بها على هذه الطبيعة.
كانت آلهتهم تمر في التحولات ذاتها التي تمر فيها الطبيعة، فمقتل الإله موت على يد الربة أنات كان يعني الاحتفال بانتهاء الحصاد، واحتفالات أدونيس كانت تحدث أيضًا في نهايته، بين حزيران وتموز، وعند انتهاء هذا الموسم في الخريف كانت تقام احتفالات استجلاب المطر.
وكان الإله الشاب يعبر عندهم عن حياة الطبيعة التي تستيقظ في بداية كل عام في الربيع، وكان موته وبعثه من جديد يمثلان التطورات التي تحدث في الطبيعة المحيطة بالإنسان والتي تظهر له وكأنها سلسة لا تنقطع من ولادة وموت عاكسة آماله باستمرار الحياة الإنسانية بعد الموت، أو ببعثها.
الخليقة عند الفنيقيين
كانت بداية الأشياء كلها هواء معتكرًا وعاصفًا، دون حدود، امتزج بالفوضى المظلمة. وعندما بدأت الرياح تحب مكوناتها أي الهواء والفوضى، نتج عنها كائن دعي الشوق، تسبّب بولادة موت على شكل مادّة مائيّة موحلة حوَت في ذاتها بذور الخليقة كلها، وقد أدى ذلك إلى نشوء مخلوقات لاواعية توالدت وأنجبت مخلوقات مفكّرة واعية دعيت زوفاشميم، أي المتطلعة إلى السماء.
وعن الوحل الأول انبثقت الشمس والقمر والنجوم ومجموعات الكواكب كلها ومن توهج الأرض واليم نجمت رياح وسحب وسقوط أمطار كثيرة. ومن حرارة الشمس الحارقة نشأ البرق والرعد، ومن قصف الرعد استفاقت المخلوقات وأخذت تتحرك على الأرض وفي البحر، رجالاً ونساءً.
وتولدت بعدها مخلوقات فانية دعيت: النار والنور واللهب وأوجدت هذه المخلوقات النار وعلـّمت طريقة استعمالها، وأنجب هؤلاء الثلاثة أبناءً فاقوهم في كبر القامة والمهارة، وبأسمائهم دعيت الجبال التي كانوا أسياده، فسمّي جبل الطور ولبنان ولبنان الشرقي (أنتيلبانون) وحرمون (براتي) نسبة لهم.
ومن هؤلاء انحدر شميم رومس الذي يدعى أيضًا هبسورانيوس (السماء العالية) وأوزوس. وسكن شميم رومس في صور (البريّة) وبنى أكواخًا من الغزار والبردي، واختلف مع شقيقة اوزوس الذي كان أول من صنع ثيابًا من جلود الحيوانات التي يصطادها.
وعدما هبّت عواصف قويّة وتسببت باحتكاك الأشجار ببعضها، نشب حريق كبير أتى على الغابة قرب صور، فأخد أوزوس شجرة نزع عنها أغصانها ونزل بها إلى البحر، وكان أول إنسان يتجرأ على النزول إلى البحر والسفر عليه. وعندما وصل إلى جزيرة صور نصب فيها عمودين للنار والهواء وقدم لهما قرابين من دماء الحيوانات التي يصطادها. وبعد موت الاثنين نصبت ذريتهما أعمدة يقدسونها، كما أنهم كانوا يحتفلون بذكراهما ويقيمان لهما الأعياد السنوية.
وبعدها بأزمنة طويلة انحدر من نسل شميم رومس أغريوس وهاليوس مبتكري فن صيد البر وصيد البحر، ومنهما انحدر أخوان كانا أول من اكتشف الحديد وطرق استعماله. وكان خوسر (الماهر الحاذق) يستعمل عبارات سحريّة ويهتم بالوحي، وقد ابتكر سنارة الصيد والطعم وخيط الصيد والزورق، وكان أول من سافر بسفينة في البحر، ولذا كُرم كإله، وأطلق عليه زفس اسم مليخيوس (الملاح).
وحكم على البلاد عشترت الكبرى وزفس دامورس حسب إرادة كرونوس (إيل). وجعلت عشترت رأس الثور على رأسها رمزًا لحكمها وسيطرتها، وعندما تجولت في المسكونة عثرت على نجم هوى من السماء، فأخذته معها إلى صور، الجزيرة المقدسة.
وعد حصول قحط ومجاعة رفع الناس أيديهم إلى السماء معتبرينها إله الكون الوحيد داعينها بعل شميم (بعل السماء).
وحسب رأي سنكن ياطون لم يكن لآلهة فينيقيا ـ ولا لغيرها ـ أي وجود حقيقي، بل كانت إما أجسامًا طبيعيّة مؤلّهة كالاجرام السماوية والجبال، أو بشرًا كان لهم أهمية سياسية أو اجتماعية عند أبناء بيئتهم فرفعهم هؤلاء بعد موتهم إلى مصاف الآلهة.
طقوس عباداتهمعدل
ليس لدينا إلا معلومات قليلة ومتفرّقة عن طقوس العبادة ومراسيمها عند الفينيقيين ومنها أن من يضحّي للآلهة ويدخل إلى باحة الهيكل، كان عليه أن يتطهّر ويستبدل ثيابه الدنيوية بأخرى جديدة، وكانت الخنازير تبعد عن هيكل ملقرت لئلا تدنسه بقربها. ومن المؤكد أن هناك أساسًا أسطوريًا لدعوة الشهر الخامس، الذي يموت فيه الإله (ويبدأ فيه الحصاد) باسم حزيران، أي شهر الخنزير.
وكان يعتقدون أن للإنسان نفسًا مسؤولة عن القسم الحيواني من صاحبها، وروحًا مسؤولة عن النواحي العقلية عنده، وكانت النفس في معتقدهم ـ تبقى مع الجسد عند موت صاحبها.
وكان الإله يظهر لعابديه كأب أو أم أو أخ أو قريب وأحيانًا كسيّد أو ملك، ومن الصفات التي كانوا يطلقونها على آلهتهم، كما وردت في كتاباتهم: "الاله متعال وعظيم وقوي، وهو يعلم ويعمل ويسمع ويبني ويعطي ويرجع للحياة ويقدر المصير ويحاسب، وهو عادل ورحيم يسمع الاستغاثة ويخلّص ويحمي وينقذ ويحرر ويساعد ويجير ويبارك".
وكانت العفّة والامتناع عن الزواج مفروضة على كهنة عشتروت، إلهة الخصب وكاهناتها. وفي معابدها وهياكلها كان يتم البغاء المقدس، فتضحي العذارى ببكورتهن لهذه الربة، ويستلمن مقابلها أجرًا يقدمنه لهيكلها.