تعبير يجري مَجرى
لم يقف المعجم طويلا عند معنى لغوي لـــ (جرى مجرى) يختلف عن معناه المستعمل في سياقات النحويين والعروضيين سوى ما ذُكر في المعجم الوسيط: «وَيُقَال جرى فلَان مجْرى فلَان كَانَت حَاله كحاله .....المجرى من النهر مسيله» (1 )، وهذا المعنى لا يختلف عما ورد عند النحويين كما سيأتي، ثم يسلك في بيان معناه ما سلكه القدماء من معنى ( مجرى) عند العروضيين والنحويين: «و(فِي الشّعْر) حَرَكَة حُرُوف الروي الْمُطلق و (فِي النَّحْو) أَحْوَال أَوَاخِر الْكَلم وأحكامها والصور الَّتِي تتشكل بهَا»( 2)، و هذا ما ساقه ابن منظور في لسان العرب بقوله: «ابن سيده: قال الأخفش: والمجرى في الشعر حركة حرف الروي فتحته وضمته وكسرته، وليس في الروي المقيد مجرى؛ لأنه لا حركة فيه فتسمى مجرى، وإنما سمي ذلك مجرىً؛ لأنه موضع جرْي حركات الإعراب والبناء. والمجاري: أواخر الكلم؛ وذلك لأن حركات الإعراب والبناء إنما تكون هنالك، قال ابن جني: سمي بذلك لأن الصوت يبتدئ بالجريان في حروف الوصل منه، ألا ترى أنك إذا قلت:
قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا
فالفتحة في العين هي ابتداء جريان الصوت في الألف؛ وكذلك قولك:
يا دار مية بالعلياء فالسند
تجد كسرة الدال هي ابتداء جريان الصوت في الياء؛ وكذا قوله:
هريرة ودعها وإن لام لائم
تجد ضمة الميم منها ابتداء جريان الصوت في الواو؟» ( 3).
من خلال النصين السابقين يتبين أن هناك فرقا بين المجرى في الشعر والمجرى في النحو؛ ففي الأول يقتصر المعنى على الشكل من الكلمة في حركة حرفِ رويِّها بين ضمة وفتحة وكسرة مما يكون في الروي المطلق، أما في النحو فإن المجرى أوسع في معناه فهو لا يتوقف عند الحركة دون السكون بل يشمل كلَّ ما يجري في أواخر الكلمات من أحوال الإعراب والبناء، فيكون على ثلاثة معانٍ:
1. الحال.
2. الحكم.
3. الصورة.
وهذا ما عناه سيبويه في الكتاب عندما قال: «هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية وهي تجري على ثمانية مجارٍ: على النصب والجرَّ والرفع والجزم، والفتح والضمّ والكسر والوقف.
وهذه المجاري الثمانيةُ يَجمعهنَّ في اللفظ أربعةُ أضرب: فالنصبُ والفتح في اللفظ ضربٌ واحد، والجرّ والكسر فيه ضرب واحد، وكذلك الرفع والضمّ، والجزم والوقف»(4 ).
وهو أول باب في الكتاب مما يعني أن سيبويه وضع منذ البداية مفهومًا للمصطلح الذي سيتكرر كثيرًا في كتابه؛ إذ ورد في أكثر من مائتين وستين موضعا، فالمجرى حال آخر الكلمة أو حكمه الإعرابي أو صورته، ولا فرق هنا بين حركة وسكون « فلم يقصر المجاري هنا على الحركات فقط كما قصر العروضيون المجرى في القافية على حركة حرف الروى دون سكونه، لكن غرض صاحب الكتاب في قوله: مجاري أواخر الكلم: أي أحوال أواخر الكلم وأحكامها والصور التي تتشكل لها، فإذا كانت أحوالا وأحكاما فسكون الساكن حال له، كما أن حركة المتحرك حال له أيضا»(5 ).
وفي هذا ردٌّ على من أخذ على سيبويه تسميته الساكن مجرى؛ إذ خفي عليه قصد سيبويه في التسمية ووقع أسير المعنى الشعري الذي يتوقف عند الحركة، وقد أُخذ على سيبويه أيضا تسميتُه حركات البناء بالمجاري فيذكر الرازي في التفسير الكبير ذلك على سبيل الرد على المازني فيقول: «قال المازني: غلط سيبويه في تسميته الحركات البنائية بالمجاري؛ لأن الجري إنما يكون لما يوجد تارة ويعدم تارة، والمبني لا يزول عن حاله، فلم يجُز تسميته بالمجاري، بل كان الواجب أن يقال: المجاري أربعة وهي الأحوال الإعرابية. والجواب أن المبنيات قد تحرك عند الدرج، ولا تحرك عند الوقف، فلم تكن تلك الأحوال لازمة لها مطلقا»( 6)، وفي هذا الرد تأييد لمعاني المجرى الثلاثة في النحو التي يقصدها سيبويه كما فهمنا من النصوص السابقة لا سيما (الحال) منها.
وعندما يستعمل النحاة القدماء هذا التعبير (يجري مجرى) في سياق بيانهم لمسائل النحو فهم يعنون بذلك على سبيل القياس، فهو من تعابير القياس عندهم، فمما يعنيه (يجري مجرى) ـ على سبيل المثال ـ هو إجراء الشيء على شبيهه من باب حمل النظير على النظير لفظا ومعنى، فقد ذكرت د. خديجة الحديثي في سياق حديثها عن أنواع القياس عند سيبويه، ومنها حمل النظير على النظير فقالت: «ومثل ذلك: في إجراء الشيء على شبيهه لفظًا، إجراؤهم كل ما كان آخره ( ألف ونون ) على (فعلان): ( فعلى) في التصغير»( 7)، وهذا التعبير ( يجري مجرى ) يتطلب علة من العلل النحوية مما يعني أنه حكم جرى عليه القياس بين طرفين.
ولا بد هنا أن نفرق بينه وبين ( ما يُجرى وما لا يُجرى ) الذي يعني ( ما ينصرف وما لا ينصـرف) أو (المُجرى) بضم الميم عند الكوفيين الذي يعني (المنصرف) فهذا غير ما يعنيه سيبويه في (يَجري مَجرى) بفتح الميم في مثل قوله: «هذا باب ما جَرَى في الاستفهام..
من أَسماءِ الفاعلينَ والمفعولينَ مَجرَى الفعل كما يَجرى في غيره مَجرى الفعل وذلك قولك: أزيداً أنت ضاربُه، وأزيدا أنت ضاربٌ له، وأعمراَ أنت مُكرِمٌ أخاه، وأزيدا أنت نازلٌ عليه..."(8 )؛ وهذا الخطأ ـ من عدم التفريق بينهما ـ وقع فيه السهيلي في أماليه حين نسب اصطلاح (ما يُجرى وما لا يُجرى) إلى سيبويه فقال: «وللمنصرف ثلاثة مجارٍ يجري عليها، ولذلك قال سيبويه: باب ما يجرى وما لا يجرى»( 9) فهذا القول للكوفيين والمبرد، يقول عوض القوزي: «وربما دعاه إلى نسبته إلى سيبويه تسميته للحركات بمجاري أواخر الكلم ثم إطلاق المبرد اصطلاح (ما يجرى وما لا يجرى) على هذا الباب فظن السهيلي أن المبرد قد تابع سيبويه في ذلك ولم يتابع الكوفيين»(10 ).
نصوص من كتاب سيبويه:
1. هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية، وهي تجري على ثمانية مجارٍ: على النصب والجرَّ والرفع والجزم، والفتح والضمّ والكسر والوقف.
وهذه المجاري الثمانيةُ يَجمعهنّ في اللفظ أربعةُ أضرب: فالنصبُ والفتح في اللفظ ضربٌ واحد، والجرّ والكسر فيه ضرب واحد، وكذلك الرفع والضمّ، والجزم والوقف. ص13/1.
2. هذا باب ما أُجْرَى مَجْرى لَيْسَ في بعض المواضع بلغة أهل الحجاز، ثم يَصيرُ إلى أصله وذلك الحرفُ (ما ). تقول: ما عبدُ الله أخاك، وما زيدٌ منطلقاً. وأمّا بنو تميم فيجرونها مجرى أما وهل، أي لا يعلمونها في شيء وهو القياس... ص 57 / ج1.
3. هذا باب ما جَرَى في الاستفهام من أَسماءِ الفاعلينَ والمفعولينَ مَجرَى الفعل كما يَجرى في غيره مَجرى الفعل وذلك قولك: أزيداً أنت ضاربُه، وأزيدا أنت ضاربٌ له، وأعمراَ أنت مُكرِمٌ أخاه، وأزيدا أنت نازلٌ عليه.... ص 108 / 1.
وبعد؛ فهل يرقى هذا التعبير إلى أن يكون مصطلحا من مصطلحات النحاة؟ وهل تتوافر فيه شروط المصطلح؟ هذا التساؤل يتطلب بحثا جديا وتتبعا حثيثا من متخصصي المصطلح اللغوي، وهو ما يُوصى به هنا.