أحمد مطر
أخذ الناس من مسرحية «الأشجار تموت واقفة» للإسباني أليخاندرو كاسونا مضمونها المتعلق بعقوق الأبناء، ووحدنا نحن العرب تعلَّقنا بعنوانها فحسب، ليس لأن سجيتنا هي أن ندور حول العناوين مثل ثيران السواقي، بل لأن هذا العنوان بالذات قد بدا مفصلاً على مقاسنا بالضبط.
ما من خرقة أو قميص أو حتى حذاء يدلّ على هواننا إلا وله مكان على فروع أشجار كاسونا.
«الأشجار تموت واقفة»... أي وقوف؟ وقوف العاجز الذي لا حيلة له في الأمر.
طبعاً تموت واقفة... وهل تحركت في حياتها أصلاً؟
وقفة الإباء والكبرياء والشمم؟ لا والله... لو كان الأمر بيدها لانحنت وجرت أذن الصبي الذي «يتعربش» على جسدها، ولعضت العندليب الذي يذرق على وجهها، ولصفعت العاشق الولهان الذي ينفق الساعات وهو يحفز قلباً داخل قلب فوق بطنها، بدلاً من أن يغتنم الوقت الثمين في مصارحة الحبيبة بأنهما لن يستطيعا حقاً أن يعيشا على الجبن والزيتون والبطاطا، لأن الغناء شيء والغلاء شيء آخر.
أو أن يحاول إقناعها بأن الحب صحيح أعمى، لكنه لو تسول طيلة حياته فلن يأتي بخلو الشقة، وعليه فإن من المنطقي أن يعيشا مع أهله إلى أن يفرجها الله.
الأشجار تموت واقفة. وماذا بإمكانها أن تفعل غير ذلك؟ هكذا خلقها الله.
أقسم لو أن خللاً في وظائف الشجرة ساعدها يوماً على الحركة والنطق، لجذبت أول خطيب عربي يصادفها من ياقته، ولرفعته إلى مستوى عينيها وانهالت عليه تقريعاً: «هيه... أنت. ماذا جرى لك؟ منذ ساعات وأنت تزعق. ماذا تريد؟ الأشجار تموت واقفة... حسناً، فهمنا يا أخي... قلتها مئة مرة، ماذا بعد؟ تموت الأشجار واقفة لأن خيبتها ثقيلة وحالها مائلة. الأشجار هكذا، ولو استطاع لسحبت كرسياً وجلست لترتاح. لكن قل لي... لماذا أنتم واقفون؟ هل أنتم أشجار؟
من يستطيع أن يقول للأشجار: أنت غلطانة؟ من يستطيع؟
ويلك يا كاسونا... ألم تجد غير الأشجار؟ ألا تشفع لأجدادك العرب سبعة قرون من الإقامة «الموقتة» في اسبانيا، ليكونوا منبعاً لإلهامك؟
ليس على وجه الأرض كلها شعب يعيش ويموت واقفاً أكثر من الشعب العربي.
يمشي العربي واقفاً، وفجأة يعصف به من قلب الظلام صوت الشرطي: قف. وبعد صفعتين يمضي به الى التوقيف، وخلال أعوام وقوفه في الموقف يكون قد أوقف عن العمل، وتوقف صرف راتبه، ويكون هو قد توقف عن أن يكون إنسانا.
يقف العربي منذ الفجر في محطة الباصات. يأتي الباص عند الضحى.. يستقله العربي واقفاً، وينزل منه ليقف في الصف لإنهاء معاملته. يأخذ معاملته ليعود بها غداً، ويقف في طابور الجمعية التعاونية. لا يحصل على شيء. يعود إلى الوقوف في محطة الباصات. يركب الباص واقفاً. ينزل من الباص، لكن مع وقف التنفيذ. يحمله الآخرون لأن قلبه لم يتحمَّل فتوقف عن النبض.
يقف العربي، بناء على طلب الخطيب، دقيقة صمت حداداً على أرواح الشهداء لوقفتهم البطولية.
كم هي الوقفات، وكم هم الشهداء. لم يخترع بعد الكمبيوتر الذي يستطيع حساب عدد وقفاتنا وشهدائنا. وإذا تيسَّر مثل هذا الأمر يوماً، فإن على العربي أن يقف سنة كبيسة من الصمت كل دقيقة! ويتساءل العربي (ضاحكا... لأول مرة): كيف أميّز وقوفي دقيقة صمت، وأنا طول عمري واقف وصامت؟!
لو أن الحكومات الواقفة في بلاعيمنا منذ نصف قرن أتاحت للعربي أن يقف «دقيقة صوت» على روحه يومياً، لما تجمع لديه هذا العدد الهائل كله من الشهداء، ولما احتاج لأن يعيش ويموت واقفاً مثل الأشجار.