لاحتْ لي عبارة "الجملة القرآنية" في أثناء صحبتي لكتاب "تحت راية القرآن" لأمير البيان ومالك زمام المعان حضرة الأستاذ الأديب النابغة الكبير مصطفى صادق الرافعي، فجذبتني الآن كما جذبته يومئذٍ بوَقْعٍ غريبٍ، فكأنما كنتُ في غَيْهَبٍ فسطعت تلك العبارة ببرقها ولمعانها ، وكأنما كنت في ظمإٍ فجيء لي بكأس دِهاقٍ يروي بعذوبته وفُراته.
برقت هذه العبارة للأستاذ الرافعي ساعتئذ نبهته إحدى الصحف العربية التي تصدر في أمريكا عندما تناولت الكلام على " رسائل الأحزان" بقول جاء في بعض معانيه أنه لو ترك "الجملة القرآنية" والحديث الشريف ونزع إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليه ولملأ الدهر ثم لحطم في أهل المذهب الجديد حطمةً لا يبعد في أغلب الظن أن تجعله في الأدب مذهبًا وحده!
وقف الأستاذ الرافعي طويلًا عند قول الصحيفة: "الجملة القرآنية" فظهر له في نور هذه الكلمة ما لم يكن يراه من قبل-على حد تعبيره- : (حتى لكأنها "المكرسكوب"! وما يجهر به من الجراثيم مما يكون خفيًّا فيستَعْلن ودقيقًا فيستعظم، وما يكون كأنه لا شيء ومع ذلك لا تعرف العلل الكبرى إلا به) .
ويتساءل الأستاذ لو أنه ترك الجملة القرآنية وعربيتها وفصاحتها وسموها، وقيامها في تربية الملكة وإرهاف المنطق، لو أنه ترك ذلك ورضيه، أتراه يتبع أسلوب الترجمة في الجملة الإنجيلية...ويَسِفُّ إلى رطانة الأعجمية المُعرَّبة، ويرتضخُ تلك اللكنة المعوجَّة، ويعين بنفسه على لغته وقوميته، ويكتبُ كتابةً تميت أجداده في الإسلام ميتة جديدة؟!
ياله من تسائل له ما وراءه من التأسُّف على ما انقلبت إليه حال العربية في زمانه، فكيف لو بُعِث الأستاذ في زماننا ورأى الإسفاف مُسْفِرًا، والاعوجاج مُوقَّرًا؟!
كيف لو تصفح كتابات العصر المنقعرة من أصلها، المجتثَّة من جذورها، ورأى العُجمة فيها قد بلغت حدًّا لا يُرْتقُ فتقه، ولا يُرْقعُ وَهْيُه، ولا يُرجى رأبُه، وأبصر الرطانةَ لا يُلأمُ صدْعُها ولا تُسَدَّ ثُلمتُها؟!
إنك إن ذهبت تبحث في أساليب العصر الكتابية لوجدتها أقرب إلى الإنكليزية منها إلى العربية، ذلك أنَّ المستعمر قد نجح في إيصال الشعور بالهوان والذلة إلى الإنسان العربي حتى إن أراد مجرد التحدث بالفصحى، وصارت صورة المتكلم بالفصحى مشوهة في السينما والمسرح والمسلسلات الدرامية، كَبُرَ مقتًا عند المستعمر وعند أذياله من المستغربين العرب أن يجدوا في بلاد العربية والإسلام من يلوك العربية فصيحة نقية.
ويُرجِع الأستاذ الكبير البلاء في هذا كله إلى أن عربية الجملة الإنجيلية قد غزت وتغزو عربية القرآنية من حيث يدري هؤلاء أو لا يدرون، فما أشبه هذه الأساليب الركيكة في مقرِّها من الآداب العربية بالمرض الموروث الكامن في الجسم الصحيح يتربص غفلةً أو علة أو تهاونًا فيظهر، فإذا هو مشغلة للصحة، ثم يستشري فإذا هو مفسدة لها، ثم يضرب فيتمكن فإذا هو مزاج جديد، ثم إذا هو الموت بعد!
نعم،..صدق والله الأستاذ، وما هذا الذي نجده من عسَسِ المجامع العربية وراء الدخيل من الألفاظ رغبةَ التعريب والتمصير إلا نزقًا من هذا البلاء الكبير والشر المستطير، ودفعة قوية إلى الأمام نحو هذا الموت المتربص باللغة ريبَ المنون، وما هذا الذي نسمعه و نقرؤه من محاولات بائسة يائسة لتأويل هذه الألفاظ والمصطلحات والأساليب والتراكيب وإقحامها في باب أو فصل أو فرع أو جزئية من العربية لا يتسع لها ولو كان بعضها لبعض ظِهْرِيًّا، ما هذا إلا شقًّا لقبرٍ يُراد وَأدُ عربية القرآن في جوفه إلى الأبد.
وما هذا الذي نبصره من دسيسة لإحلال الجملة الإنجيلية محل الجملة القرآنية إلا محاولات لطمس هُوية العربية، وإخماد جذوة فصاحتها، وإطفاء شُعلة حيويتها التي لا تنقدح إلا بزناد القرآن المعجز.
وفي تلك السلسلة من المقالات سوف نستعرض صورًا ومشاهد من تلك الأعاجيب التي حلَّت باللغة جرَّاء هذا البلاء المطرد، وسوف نُنَقِّرُ في هذه السلسلة تنقيرًا عن مواطن الخلل ومواضع الزيغ ابتغاء إيقاظ الدواعي المهمومة بعربيتها وعروبتها ودينها فتُصلح ما يمكن إصلاحه وتكمل ما تصدع من أركانه.