الــرجــــل الــمـــهـــزوم ( قــصــة حـقــيــقـيــة )
هذه القصة المعبّرة والحقيقية صاغها كاتبها باسلوب أدبي تجعل القارئ لا يترك الكتاب حتى يأتي عن آخره
قرأتها مرة ومرّتان وثلاثة
اسلوب في الكتابة وتأثير على القارئ وإثارة المشاعر الكامنة في نفس القارئ وهي مشاعر غريزية تحكي قصة رجل قصّ القرآن لنا حكايته ،، فكان عبرة لغيره ممّن أغوته الحياة الدنيا وزيّن له الشيطان شرّ عمله بعد أن كان يسمو في روحانيات العبادة والتقرّب من الله تعالى ،،
وتدلّ على أنّ الثبات على الدين من الله تعالى ،، وأنّ القلوب بيد الله يقلّبها كيف يشاء ،،
نسأل الله لنا ولكم الثبات على الدين والإيمان ،،
لا أطيل عليكم سوف أنزل الرواية على حلقات حتى تكون أدعى للقراءة وعدم الملل والسآمة
وجزى الله خير الجزاء مؤلّفها الأخ الكريم ( خالد الجبرين
يتّبع ..أجواء ساكنة .. وهدوء يكتنف كل شئ لكن نسمات ربيعية باردة هبت من ناحية الشرق .. دحرجت صخرة صغيرة من عالية الجبل، وجعلت الراهب "برصيصا" يتململ في مكانه ويتناهض في بطء عن الصخرة التي كان جالساً عليها.
اعتراه صفاء داخلي، فأجال عينين بارزتين في صفحة السماء الزرقاء ... تأمل الكون .. درس الوجود .. استعبر .. فاضت عيناه بدموع خاشية وشدد قبضته الضعيفة على حفنة قمح كان يمسكها ...
سبحانك الله .. ما أعظمك ... ما أبدع خلقك، وما أوسع قدرتك وعلمك كيف يعصيك من يعرفك ويرى سماواتك وأرضك!
وبيده الفارغة مسح وجهه منتهياً بلحيته الناصعة البياض، وتهادى في خطوات بطيئة نحو الدوحة القريبة من صومتعه.
وكعادتها لم تفرّ العصافير منه..!
بسط راحته بحبات القمح وجعل يتأمل الطيور وهي تلتقطها آمنة من تحت قدميه .. بينما كانبعضها يلتهم رزقه من يد الراهب المبسوطة.
ولما فرغت الطيور من طعامها عادت نسمات الربيع لتهب من جديد، وعاد الراهب يسمح وجهه الوضئ بيده مستشعراً انتعاشاً لذيذاً ورغبة قوية إلى الصلاة والمناجاة.
وعاد بخطاه المتباطئة إلى الصومعة وعندما دفع بابها الخشبي الصغير أحدث صريراً عكّر السكون من حول.. وفي غلس الصومعة الصغيرة تلمّس الراهب مُصلاه وانفتل في صلاة طويلة.
سنوات طوال تُثقل ظهره.. وشهور لا تُحصى أمضاها الراهب الكهل في رحاب العبادة والمسير الجاد إلى الله.. في ذاكرته تزدهر أحداث حياته دائماً لا يحجبها إلا ضباب الزمن الطويل.
هجر قريته منذ ستين عاماً، واعتزل المخلوقين في أطراف الصحراء مستأنساً بصحبة الله عن صحبة من سواه... تشجيه متعة طاهرة حين تسمو روحه عن الدنيا القريبة متأمّلاً ملكوت ربه، ويغمره السرور حين تأخذه المناجاة والأوراد.
قبل عشرات السنين أنشأ صومعته تحت أكبر الجبال المحيطة القريبة من الوادي ... بناها من طين وحجر.. وكانت تقوم بالقرب منها دوحة كبيرة تزخم فروعها عالياً في الهواء.. كان الراهب يقضي تحتها بعض ساعات نهاره حين تشتد الشمس في فصل الصيف، وحول الصومعة تتناثر الشجيرات والأعشاب وفي الربيع الزاهي تصطبغ الأرض والسفوح بلون الخضرة وتتبعثر الزهور في كل بقعة.. ويعتدل الجو ويصبح المكان آسراً للنظر.. وكم يفرح الراهب بذلك فينشط للعبادة والصلاة.
وعندما يتولى الربيع تتلاشى الخضرة وتترآى على مدى مسافات شاسعة أرض صفراء، لكن بعض الشجيرات تبقى مخضرة طوال العام مقاومة الجدب والشموس الساخنة.
لم يكن الراهب يخالط أحداً.. كان يؤثر العزلة ويحس أن أنفراده مع نفسه في الفلاة يشبع عنده رغبة شديدة في التقرب إلى الله كان استئناسه بالله يعوّضه عن توحشه من البشر!
لم يكن يذهب للقرية البعيدة إلا مراراً قليلة ليحضر بعض ما يقيم به صلبه ويدفع عنه غائلة الجوع.
كان الناس يعرفونه ويجلّونه ويعظّمونه، ويقدّرون انقطاعه لله وتبتّله في العبادة.
وفي أحيان غير قليلة كان الراهب يطوف الصحراء ويهيم بين الجبال يتأمل عظمة الله ويتفكر في إبداعه وخلقه... وكثيراً ما يغلبه الشجن فتفيض عيونه البارزة بدموع كبيرة تخضب لحيته المبعثرة.
يتبع ..
وفي يوم كان عائداً من إحدى جولاته يشد وسطه النحيل بشالٍ أبيض . . تحدر ناحية الجبل الكبير ثم جلس ببطء متهالكاً على صخرة ناشئة فوق الجبل . . عصر مفاصله المتصلبة و أرخى جسمه المتعب ، ورد شعره الأشيب الطويل إلى الوراء مرسلاً طرفه في السماء والأرض . . كان الأفق الأزرق مخضباً بالسحب الداكنة . . . معانقاً الأرض الزاهرة عناقاً متصلاً .
تأمل "برصيصا" الصومعة الصومعة الطينية تحته كانت كحالها تتشبث بأقدام الجبل العظيم وتنوء بجدارها الخلفي هروباً من الوادي الفسيح . وخلف الصومعة كانت الأرض المخضرة تمتد بلا نهاية .
وعاود الراهب النظر إلى الصومعة وخيل إليه أنها تقترب من مجرى السيول أكثر مما كان يراها كل يوم !
لم يأبه لهذا الأمر أبداً ففي السنوات الماضية الكثيرة كان الوادي يثور بالمياه ، ويضيق بماء المطر المنهمر فيجرف معه الأشجار والصخور بعنف ، لكنه ينساب منبسطاً إذا حاذى الصومعة ، ويتغير مجراه مبتعداً ناحية الجنوب .
حدق الراهب ثانية السماء . . . كانت السحب المبعثرة قد تلائمت وأرسلت زخات عذبة من المطر . . . سارع الراهب بالنزول . . . كانت إحدى يديه تضم صره من نبات الجبل ليأكله في المساء وكان يتكئ بالأخرى على محاذراً السقوط ، وقبل أن يدخل الصومعة كانت الزخات العذبة قد استحالت إلى مطر منهمر .
في باب الصومعة جلس يتأمل الجداول الصغيرة المتحدرة من أعالي الجبال وهي تدحرج حصوات صغيرة لتلقي بها في بطن الوادي العريض ، لكنه تراجع إلى الداخل حين شعت الجبال بضوء بارق سريع تبعته فرقعه عظيمة وهطلت الأمطار أشد غزارة ، وغسلت معها الصخور والأرض .
ثم توقفت الأمطار فجأة . . . ولم يعد هناك سحب قطنية سابحة عكست عليها الشمس الغاربة شعاعها ولونتها بلون دموي وعندما أظلم الليل لم يكن قد بقي من آثار المطر إلا الأرض الندية والصخور المغسولة وجدول صغير من الماء كان ينساب في أطراف الوادي .
** 3 }
في الضحى التالي استيقظ الراهب من نوم ثقيل بعدما أحيا ليلة طويلة في محرابه ، تناول شيئاً يسيراً . . . ثم تهادى ناحية الدوحة ، يتفيأ وييجلس جلسته المعهودة ويبسط يده السخيه بالحب إلى الطيور التي ألفته .
لبث قليلاً وأكلت الطيور طعامها . . . كانت على غير عادتها . . . يفزعها شيء ما . . ! استغرب الراهب الكهل ، وأدار بصره في الأنحاء . . يتفقد . . لا شيء سوى الأرض الخضراء والسفوح المنحدرة ! لكن التفاتة أخرى جعلته يدرك ما الذي أفزع الطيور . . . بل لقد دبت فيه عدوى الفزع . . . ففي الجهات الشمالية كانت الشمس ترسم ظلالاً طويلة لثلاثة أشخاص يتقدمون نحوه . . . وبرغم المسافة البعيدة ، إلا أنه أدرك أنهم يحثون الخطى متلهفين إلى الوصول . . استقام في جلسته ولم يخالجه شك في أنهم قادمون من القرية .
كان دهشاً مستغرباً أن يأتي إليه أحد . . . ثم تضاعفت دهشته وامتزجت بامتعاض واستياء .
اقترب الأشخاص فتزايد استياؤه وشعر أن إقامته الطويلة وحيداً في صومعته مستأنساً بالعزلة والعبادة سيعكر صفاءوها الآ من قبل هؤلاء الوافدين . . امتلأ بالريبة وطغت الوحشة والانزعاج عليه وعاود النظر إلى الشمال وبين له أنهم رجال . .
تبعثرت أفكاره وتشتت ذهنه . . . واحتار فيما يفعل ودفعه تصرف فطري إلى أن يهرب إلى صومعته .
أغلق بابها المتداعي واستند بظهره عليه وزاغت نظراته في الفراغ المعتم ! وصل الرجال . . . وتناهى إلى سمعه صوت خطاهم . . . وعندما صاروا قريبا من الصومعة سمعهم يتساءلون عنه . . . وسمع أحدهم يؤكد أنه لمح الراهب هنا وأنه ربما يكون بالداخل ثم صمتوا فيما سمع "برصيصا" باب الصومعة يطرق طرقا ًمهذباً .
لم يجبهم بشيء وهم بأن يدخل إلى محرابه لينشغل بالصلاة !فماذا يريدون منه ؟ ! لماذا لا يتركونه وعزلته ! فهو لا يريد لقاء أحد . . لا يريد إلا الله .
فكر ماذا يفعل . . . وابتسم في مرارة حين دعاه خاطر مجنح بأن يهدم جدار الصومعة الخلفي ويلوذ بالفرار ! !
عاد الطرق ملحاً حازماً على الباب ، فلم ير الراهب بداً من الإجابة .
ـ من أنتم وماذا تريدون ؟
خاطبه صوت من الخارج :
ـ نحن من القرية ياسيدي الراهب . .
أجاب الراهب من خلف الباب :
ـ لقد عرفت أنكم من القرية . . . لكن ماذا تريدون ؟
فرد الرجل أنهم يريدونه لأمر هام .
ارتعشت يده على مقبض الباب وهو يفتحه بتؤده محدثاً صريراً مزعجاً .
كانوا ثلاثة أشداء تفصح ملامحهم الجميلة عن النعمة والصحة . . . ولفترةظل العابد الوقور يحدق إليهم بدهشة عابس الوجه . . . وبدا على وجوههم أنهم لم يتوقعوا هذا الاستقبال ، لكنهم بادروا إلى يده يلثمونها باحترام وإجلال .
وتحدث هو بنفسٍ عبوسه وسؤاله الأول :
ـ ماذا تريدون ؟ !
ثم هو يلح في مسألته :
ـ ماذا تريدون ؟ ومن تكونون ؟
نظر الفتيان إلى بعضهم فيما يشبه الحيرة , حتى تكلم أوسطهم :
ـ نحن يا سيدي إخوة . . نقيم في البلدة الشمالية مع أخت لنا مريضة وكنا نتعاقب رعايتها والبقاء معها وقد نادى منادي الجهاد واختلفنا فيمن سيبقى عندها و يعتني بها ولم يكن في القرية أحد نأمنه على أختنا ونثق فيه واحترنا في أمرنا ، فلمنجد إلا أن نلتمس مساعدتك يا سيدي .
في هذه اللحظة حلق طير صغير من زاوية الصومعة و حط تحت الدوحة يلتهم بعض الحبوب المنثورة ، ثم طار محلقاً إلى الجبل الكبير . . . تابعه الراهب باهتمام ، وبدا للإخوة أنه شغل بالطير عنهم ! لكنه حدق إليهم وقد ارتخت أعصابه المشدودة وتجلى عنه شيء كثير من الفزع والدهشة ثم تركهم وجلس على صخرة قريبة في صمت وقور . . نظروا إلى بعضهم ! ! لكنه قال فيما يشبه الكآبة :
ـ ومن الذي أغراكم بأن تلتمسوا عندي المساعدة ؟
أجابه الأوسط :
ـ سيرتك المحمودة يا سيدي ، ثم أنا لا نجهل مكانتك وقدرك .
فقال بلا مبالاة :
ـ وكيف تريدونني أن أساعدكم ؟ رد الشاب :
ـ نريد إبقاء أختنا لديك تعالجها وتنظر في أمرها لحين عودتنا من الحرب .
لم يكد الشاب يتم جملته حتى نهض الراهب من على صخرته في وجوم وعاوده الفزع الفطري وطافت بذهنه شتى الخيالات . . . ثم صاح فيهم :
ـ تقيم عندي امرأة؟!!
فأجابه أحدهم شارحاً :
ـ إنها مريضة ولا نأمن عليها في البلدة أحداً . . . فساعدنا يا سيدي وستجد أجر ذلك عند الله .
فصاح الراهب ثانية :
ـ كلا لن أفعل .
ولم ينتظر من أحدهم تعليقاً بل سارع بقدر ما تسمح به شيخوخته ناحية الصومعة وأغلق بابها خلفه متسارع الأنفاس وشدد قبضته على الباب كأنما يخشى أن يقتحم عليه الشبان صومعته !
يتبع ..
جاء في ترجمة الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قيل له: ( إن قوما يجلسون مجلسك يتتبعون العثرات من كلامك ثم يعيبونك بذلك ، فقال : يابني أن الناس لم يرضوا عن الخالق، أفتراهم يرضون عن مخلوق )