مضتْ عُصُر الفصحاء الذين آمنوا بلغة القرآن وعملوا الصالحات شعرًا ونثرًا وخطبًا، واقتفوا آثار الغابرين من أساطين البلاغة والكلم، فخلف من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا العربية واتبعوا الترجمات التي تتداعى على قصعة اللسان العربي المبين من كل حدَبٍ وصوبٍ، فكان ما نراه الآن مما لا يُحمَدُ أثره، ولا يُرجى بُرْؤُهُ.
وقد سَارع في نقض عُرى الجملة القرآنية تلك الوسائلُ الصحفية والإعلامية المتشعبة المتنوعة، التي سعت في نقض عرى الفصاحة عروةً عروةً حتى غدت اللغة مسخًا مشوهًا، واستبدلت الذي هو أدنى ركاكة وسماجة بالذي هو خيرٌ لغةُ القرآن التي هي في القمة السامقة من الفصاحة، والذروة الشاهقة من البيان، وأضحينا أمام لغة جديدة قد ذهبت بكثير من الكلمات إلى غير معانيها التي تعرفها عربيتنا القديمة، حتى ناءت بأكتاف اللغويين والباحثين، وإن تدعُ مثقلةٌ إلى حِمْلِ هذه الكلمات التى كُسِيَت استعمالًا غريبًا لا يُحمل منه شيء، فهو وزرٌ لا يحمله إلا تلكم الوسائل الإعلامية التي تنكبت سبل اللغات الأجنبية، ولسان حال العربية معهم يمثلها قول حافظ إبراهيم:
أرى كلَّ يومٍ بالجرائدِ مزلقًا ........مِنَ القبرِ يُدْنيني بغير أناةِ
وهاكَ بعضًا من تلك الأمثلة من الجمل القرآنية العتيقة التى مُحيت من قاموس الاستعمال وحلتْ محلها عبارات مترجمة ركيكة سمجة تمقتها الفصاحة، وتمجها الأذواق:
1-أسلوب المفعول المطلق: وهو باب مفتوح من أبواب المؤكدات التي تؤكد الحدث أو تبينه، وقد ورد هذا الأسلوب في القرآن كثيرًا جدًّا.
لكن الأساليب المعاصرة قد حادت إلى نوع استعمال لو أنها استعاضت عنه بالمفعول المطلق لأكسب الكلام وضوحًا ورصانةً وبلاغة .
الاستعمال المعاصر: (تطور الاقتصاد بشكل واضح)، وهي ترجمة للعبارة الإنجليزية:
.(the economy has been noticeably developed)
(تحسنت صحة المريض بصورة كبيرة)، وهي ترجمة للعبارة الإنجليزية:
.(the patient health has been greatly improved)
الجملة القرآنية: التأكيد بالمفعول المطلق الذي يؤكد عامله تأكيدًا لفظيًّا أو يبينه ويوضحه؛ مثل: (ورتل القرآن ترتيلًا)، (اذكروا الله ذكرًا كثيرًا)، (فقد ضل ضلالًا مبينًا)، (فإنه يتوب إلى الله متابًا).
فماذا عليهم لو قالوا: تطور الاقتصاد تطورًا واضحًا؟!...وقالوا: تحسنت صحة المريض تحسُّنًا كبيرًا؟!
2-أسلوب الاستنتاج أو الصيرورة: يقوم بهذا المعنى في لغتنا كثير من التعبيرات؛ مثل: يؤدي إلى، ينجم عن، يستحيل إلى، يُحدِثُ، بمثابة كذا، يُمثِّلُ، صار كذا، كان كذا، أصبح وأضحى وأمسى، وكذلك لام الصيرورة والعاقبة ...إلى ما لا حصر له من الأساليب.
الأسلوب المعاصر: يقولون: ( هذه القضية تُشكِّل خطرًا دائمًا)، (هذه المسألة تشكل موضوعًا للبحث)، (يشكل أزمة).
وهذه الأسلوب مأخوذ من الترجمة الحرفية للكلمة الإنجليزية: (to form).
ويمكنك أن تستعيض عن هذا الأسلوب بكثير من الأساليب العربية العالية، مثل: (صارت هذه القضية خطرًا)،(كانت أزمة كبيرة)، (جاءت هذه القضية لتَكُونَ خطرًا)، (هذه المسألة بمثابة خطر).
الجملة القرآنية: وقد استخدم القرآن أساليب التأكيد بالجملة و(إنَّ) واللام للتعبير عن أهمية أمر ما ؛ مثل: (إن هذا لهو البلاء المبين)، وبلام الصيرورة والعاقبة؛ مثل: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا)، وبأصبح؛ مثل: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون..).
3-أسلوب الاضطلاع بالدور والقيام به: يقولون: اضطلع بالأمر، أي: قَوِيَ عليه ونهض به، ومنه حديث: (كما حُمِّل فاضطلع بأمرك لطاعتك) .
الاستعمال المعاصر: (لَعِبَ دورًا)، وهو مترجم عن قولهم:
Play)) بالإنجليزية،أو (jouer) بالفرنسية، وكلاهما يفيد بالإضافة إلى معنى اللعب معاني أخرى في تلك اللغات،مثل: التمثيل المسرحي، والقيام بالعمل الاجتماعي .
وقد هاجم الأستاذ عباس العقاد ذلك الاستعمال بقوة وعدَّه من السَّخف الذي يتحرج منه أصحاب اللغة الأجنبية أنفسهم عند استخدام هذه العبارات، ولو أنهم أخذوا مادة (اللعب) بحرفها كما وُضعت أصلًا لم يكن لهذا الموقع المعيب عند سامعيها من العارفين بمعانيها؛ لأن أصل المادة عندهم يشمل (الاشتغال) و(الحركة) .
الجملة القرآنية: (وأنا به زعيم)...والزعيم بالشيء: الكفيل به، أي: تكفل بالأمر وضمن القيام به.
4-أسلوب الإلمام والإحاطة: يعبر العرب عن هذا بالإحاطة العلمية، فيقولون: أحاط به علمًا، يعنون به: عَلِمَهُ ، أو: وَسِعَه علمًا.
الاستعمال المعاصر: (قام الصحفي بتغطية المؤتمر)،(غطى وقائع المؤتمر)،(تغطية الحاجات)، ويقصدون بتغطية المؤتمر: الإحاطة بوقائع المؤتمر معرفةً وبأخباره دراية وضبطًا (وهو عجيب؛ إذ كيف نغطي المعرفة والعلم؟!) ويعنون بتغطية الحاجات:سد الحاجات (وهو أعجب؛ إذ كيف نغطي حاجات مطلوب كشفها للقيام بسدها؟!).
وهذا الاستعمال لا تقبله العربية؛ لأن التغطية مادة لـ(الإخفاء،والحجب) فكيف يستعمل في عكس ما يقتضيه المعنى المقصود من (غطى) وهو الكشف والإحاطة والبيان؟!
يقول الدكتور إبراهيم السامرائي:
وهذا ليس من العربية في شيء، بل هو ترجمة حرفية للعبارة الفرنسية:
.(pour la couverture de besoins)
,ولقد شاعت هذه(التغطية) حتى صارت شيئًا لا بد أن تجده في كثير مما يكتب في الصحف، يقال مثلًا: "لقد كلَّف فلانًا بتغطية وقائع المؤتمر".ويريدون ضبط الوقائع والإخبار عنها، ولو أنَّ أحدًا كان قد سمع هذه العبارة قبل ما يقرب من ربع قرن لفهم عكس ما يراد ما فهم منها في هذه الأيام .
ويرى آخر أن الخطأ دخل إلى العربية من قِبَلِ ترجمة العبارة الإنجليزية:
.(to hide from sight or knowledge)
أو من قولهم:
.(to report news about)
الجملة القرآنية: (أحاط به علمًا)، (أحاط به خُبرًا)،(وسِعَهُ علمًا)، (جاء بالنبأ اليقين)، ومنه قول الهدهد لسليمان: (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإٍ بنبإٍ يقين).