هُيئ لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إليها ما لم يتهيأ لغيرها من المدن في شتى أرجاء المعمورة، إذ صارت مهبط الوحي، وصلة الأرض بالسماء، وحاضرة الإسلام الأولى، وسكنها جيل فريد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما شهد العالم مثله في سموه ورفعة أخلاقه، وكيف لا ؟! وقد رباه الرسول صلى الله عليه وسلم وصنعه على عينه، حتى صار أفراده مصابيح هدىً تضيء للناس.

وقد قدر لهذا الجيل أن يشهد بنفسه الأحداث التاريخية التي وقعت عند بزوغ الإسلام – حيث كانت المدينة مسرحاً لأكثرها – فحكاها كما شاهدها لمن خلفه دون زيادة أو نقصان، مستشعراً في ذلك المسئولية الملقاة على عاتقه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح ابن حبان: "من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار "، وواضعاً نصب عينيه حديث نبينا صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، وعلى أيدي هؤلاء وضعت النواة الأولى لمدرسة المدينة التاريخية، حيث كان لها بذلك ما يميزها على غيرها من المدارس التاريخية الأخرى.

وكان على رأس هؤلاء الصحابة الأجلاء الذين خدموا التاريخ في بدايته عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، والذي تنوعت معارفه وتعددت حتى شملت سائر العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه ولغة وتاريخ ومغازٍ حتى سمي "البحر" لغزارة علمه، وانتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير.

قال عطاء: ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كأنه في واد واسع، وبلغ من منزلته ومكانته أن الخليفتين عمر وعثمان رضى الله عنهما كانا يدعوانه ليشير عليهما مع أهل بدر -رغم حداثة سنه- ولا غرو فقد أصابته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " وفي رواية أخرى "وعلمه الحكمة".

أما الدليل على أنه كان للتاريخ عنده حظه ونصيبه فهو قول عبيد الله بن عتبة : "كان ابن عباس يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب" وقول الواقدي: "حدثني فائد مولى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن جدته سلمى قالت: رأيت عبد الله بن عباس معه ألواح، يكتب عليها شيئاً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ويقول ابن عباس نفسه: "كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل من القرآن في ذلك".

وقول عطاء : "كان ناس يأتون ابن عباس للشعر، وناس للأنساب، وناس لأيام العرب ووقائعها، فما منهم من صنف إلا يقبل عليه بما شاء".

وقد وردت إلينا عن ابن عباس مرويات تاريخية كثيرة عند ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والطبري، تظهر لنا مدى الحس التاريخي المبكر لديه، وتؤكد لنا صحة ما قيل عنه.

وقد تناولت هذه المرويات: نشأة الكون، وعمر الأرض، وخلق الليل والنهار، وابتداء الخلق، وسلطان إبليس في الأرض قبل خلق آدم عليه السلام، وقصة خلق آدم عليه السلام، وقصة هبوط آدم وحواء إلى الأرض، وبداية ظهور عبادة الأصنام، وقصة نوح عليه السلام، وحاله مع قومه، وخبر الطوفان، وعدد من نجا معه، وتفرق أولاده في الأرض.

وقصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود (الملك الذي حآجه) وأخباره مع قومه، ونقل إبراهيم هاجر وإسماعيل عليهما السلام إلى مكة، وبناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام، ودعوة إبراهيم الناس إلى الحج، وقصة نذر إبراهيم ذبح إسماعيل عليهما السلام، وميلاد إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، وقصة لوط عليه السلام مع قومه، وقصة يوسف عليه السلام، وقصة موسى عليه السلام، مع الخضر، وقصة موسى مع فرعون، وعبور بني إسرائيل البحر وإغراق فرعون، وقصة قارون مع موسى عليه السلام، وظهور العمالقة على بني إسرائيل.

وقصة سليمان عليه السلام، وحمل مريم بالمسيح عليهما السلام، وقصة بني إسرائيل مع يحيى بن زكريا، وقصة أصحاب الكهف، وهذه الأخبار لم يتناولها ابن عباس لذاتها، وإنما من خلال تفسيره للآيات القرآنية التي أشارت إليها.

كما ورد عنه أيضاً بعض الأخبار التي تتحدث عن تاريخ العرب قبل الإسلام، مثل أخباره عن ملوك حمير باليمن، وغلبة الحبشة على اليمن، ومحاولة ملكهم صرف الناس العرب عن الحج إلى مكة إلى كنيسته التي بناها، وبعض الأخبار عن سيرة رسول الله مثل: حادث ميلاده صلى الله عليه وسلم، وضم أبي طالب رسول الله إليه بعد وفاة عبد المطلب، وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد، ونزول الوحي عليه وهو في سن الأربعين.

وإعلان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة الله بعد أن نزل عليه من القرآن {وَأَنذِرْ‌ عَشِيرَ‌تَكَ الْأَقْرَ‌بِينَ} [الشعراء:214]، وموقف أبي لهب من إعلان الدعوة، وجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم في بيته على مأدبة طعام لدعوتهم إلى الله، ومحاولة قريش إغراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمال والملك ليتخلى عن دعوته، وما كان يلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيذاء المشركين له، وتاريخ هجرته.

كما تحدث عن بعض الغزوات والسرايا مثل: سرية نخلة، وغزوة بدر، وقصة مقتل كعب بن الأشرف اليهودي؛ بسبب تحريضه المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغزوة أحد، وحمراء الأسد، وحصار بني النضير، وصلح الحديبية، وفتح مكة، وغزوة حنين.

كما ورد عنه بعض المرويات عن أحداث وقعت في عصر الخلفاء الراشدين مثل خبر وقوع عبد الله بن حذافة في أسر الروم، ومقتل الخليفة عثمان بن عفان على أيدي السبئية.

ومروياته حول هذا الأمر تبين إعظامه لمقتل عثمان رضي الله عنه، حتى قال: "لو أن الناس أجمعوا على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمي قوم لوط" كما أنها ترد على من زعم أن علياً رضي بقتل عثمان أو لم ينكره فقال : "أشهد على علي أنه قال في قتل عثمان: لقد نهيت عنه، ولقد كنت كارهاً، ولكني غُلبت"، وليس هناك شهادة تعلو فوق شهادة ابن عباس في هذا الأمر فقد كان من أقرب الناس إلى علي، وأعلمهم به.

هذا وقد ساعدت معرفة ابن عباس الواسعة بالتفسير، وأسباب نزول الآيات في أن يدعم أكثر مروياته التاريخية بالآيات القرآنية التي لها صلة بالحادثة، أو مرتبطة بها مثل قوله : هذه الآيات نزلت في بني قينقاع {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُ‌وا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُ‌ونَ إِلَىٰ جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12].

ومثل قوله عن الآية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ...}[النحل:126] قال : نزلت لما قتل حمزة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لئن أظفرنا الله عليهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب". وعن قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا...} [آل عمران:169] قال : نزلت لما أصيب أصحاب الرجيع، وقال فيهم رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء الذين هلكوا، لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، وهكذا نرى ذلك في كثير من مروياته عن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وابن عباس بهذا الفعل قد أكد منذ وقت مبكر على أن علم التاريخ هو جزء من الثقافة الإسلامية، وينبغي ألا يدرس بمنأى عنها، وسلك هذا المنهج بعده واتبعه كل من كتب في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والتاريخ الإسلامي من الكتاب الأوائل، لكن مع انضمام الإخباريين إلى ساحة الكتابة التاريخية، وحصر غاية التاريخ في كثير من الأحيان على مجرد جمع الأخبار وتدوينها ضعفت صلة التاريخ شيئا فشيئا بسائر فروع العلوم الإسلامية.

ورغم عظم دور ابن عباس في مجال الرواية التاريخية إلا أنه لا يمكن التسيلم بصحة كل ما نسب إليه من المرويات التاريخية؛ لأن شخصيته من الشخصيات التي استغلها الوضاعون لمكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب، ومن جانب آخر لأنه كان من نسله الخلفاء العباسيون الذين كان يتقرب إليهم مرضى القلوب بكثرة المروي عن جدهم، ليس في التاريخ فحسب، وإنما في كثير من الفنون حتى قال الشافعي: "لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث" رغم أنه لا تكاد تخلو آية من القرآن إلا ويورد له فيها قول، وهذا يدل على مدى ما كان يختلقه الوضاعون وينسبونه إليه.

هذا في مجال الحديث والتفسير، فإذا ما جئنا إلى التاريخ الذي هو مجال بحثنا، وجدنا روايات متعددة منسوبة إليه ولا يمكن التسليم بصحتها، مثال ذلك ما ذكره السيوطي في الخصائص عن المسور بن مخرمة عن ابن عباس أنه قال "قال عبد المطلب: قدمنا إلى اليمن في رحلة الشتاء فنزلت على حبر من اليهود، فقال رجل من أهل الزبور: ممن الرجل؟ قلت: من قريش، قال: من أيهم؟ قلت: من بني هشام، قال: أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قلت: نعم، ما لم يكن عورة، قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الأخرى فقال: أشهد أن في إحدى يديك مُلكاً وفي الأخرى نبوة. وإنا نجد ذلك في بني زهرة [1].

ولست أدري ما علاقة النبوة بالأنف، ولو سلمنا جدلاً أن الكتب السابقة بشرت بذلك، فهل في الكتب السابقة أن عبد المطلب وابنه عبد الله سيتزوجان من بني زهرة؟! وهل فيها ما يبشر أو يشير إلى ملك بني العباس ؟! أظن ذلك من القصص التي وضعها القصاصون بعد استقرار الخلافة العباسية.

وأعجب من ذلك ما أورده السيوطي منسوباً إليه أنه "كان من دلالات حمل رسول الله أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة، وقالت حمل برسول الله – ورب الكعبة – وهو إمام الدنيا وسراج أهلها، ولم تبق كاهنة في قريش، ولا في قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبها، وانتزع علم الكهنة منها.. وسرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار" [2].

ومن ذلك أيضاً الروايات التي وردت حول النزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما – والتي تبرز ابن عباس دائماً على أنه صاحب الرأي السديد، وأن علياً ما أحاطت به الشدائد إلا لمخالفته رأي ابن عباس رضي الله عنهما انظر مثلاً في رواية الطبري عن خروج عائشة رضي الله عنها إلى البصرة دون الكوفة، وفرح علي لذلك، فقال ابن عباس: "إن الذي سرك من ذلك ليسوءني، إن الكوفة فسطاط فيه أعلام من أعلام الكوفة"[3].

وعند التحكيم يقول -أي ابن عباس- قبح الله رأي أبي موسى، حذرته وأمرته بالرأي فما عقل[4]، ومثل قوله لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع لست بأرب الحرب، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحرب خدعة.... " أما والله لإن أطعتني لأصدرن بهم بعد ورود، ولأتركنهم في دبر الأرض، لا يعرفون ما كان في وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثم..... فقال علي : يابن عباس لست من هنياتك وهنيات معاوية في شيء [5].

وقد يكون في هذه المرويات بعض الصحة، ولكنها أخذت طابع المبالغة، وعلى كل حال فإنه رغم الشكوك التي دارت حول بعض مرويات ابن عباس، وما لفقه أو نسبه له الوضاعون، فإن ذلك لا يقلل من مكانته الريادية في هذا الفن.

خاصة أن النقاد قد اتبعوا سلسلة رواته، فعدلوا بعضاً، وجرحوا بعضاً حتى يكون القارئ على بينة، وحتى لا يقف وقفة المرتاب تجاه مروياته، فقالوا مثلاً : طريق معاوية بن صالح عن علي بن طلحة عن ابن عباس من أجود الطرق عنه، إذ اعتمد عليها البخاري، وكذلك ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن المنذر ومسلم.

وطريق عبد الملك بن جريج عن ابن عباس تحتاج إلى دقة في البحث ليعرف الصحيح منها والسقيم [6].

وطريق الضحاك بن مزاحم الهلالي عن ابن عباس غير مرضية [7]. وطريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أوهى طرقه، فإذا انضم إلى ذلك محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب[8].

هذا وقد تتلمذ على ابن عباس كثير من التابعين الذين كان لهم دور كبير في نمو وازدهار الدراسات التاريخية مثل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير وغيرهم.

ولكن اشتهر من بين تلاميذ ابن عباس الذين سبق ذكرهم رجلان كان لهما عناية خاصة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحداث التاريخ الإسلامي في عصر الخلفاء الراشدين وهما: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير بن العوام.

[1] جلال الدين السيوطي الخصائص الكبرى جـ1 صـ100 تحقيق د / محمد خليل هراس – دار الكتب الحديثة
[2] المصدر السابق : جـ1 صـ 118
[3]الطبري جـ4 صـ 459
[4] المصدرالسابق : جـ5 صـ 71
[5]المصدرالسابق : حـ4 صـ 441
[6]السابق صـ85
[7]السابق صـ85
[8] السابق صـ87 وانظر كذلك فجر الإسلام أ / أحمد أمين صـ 203.
التاريخ العام