تاريخنا الإسلامي هو كنز معرفي وحضاري يزخر بالأحداث والقصص، وفيه من كل أطياف الحضارات السالفة، فتجتمع فيه كافة العناصر التي تجعله معيارًا يُقاس به تاريخ الأمم الأخرى، ولم تعرف الدنيا روعة ولا إبهارًا مثل التي وجدناها في تاريخنا الإسلامي العظيم، بدايةً من العهد النبوي ومرورًا بالعهود التاريخية المختلفة كالعهد الراشدي والأموي والعباسي والأيوبي والمملوكي والعثماني والأندلسي، ولقد أرغمت سماحة الإسلام الكثير من أصحاب الديانات والملل الأخرى أن يدخلوا الإسلام بقلوبٍ مطمئنة، ولنا عبرة في سماحة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه في الحروب، فلم يقاتل صلى الله عليه وسلم غير المتكبرين المتغطرسين الذين كانوا يصدُّون الدعوة إلى الله، كما كان صلى الله عليه وسلم ينهي عن قتل النساء والأطفال، والشيوخ الذين لا رأي لهم في الحروب، أيضًا كان ينهي عن قتل كل من ليس من شأنه أن يقاتل.
وقد اشتملت الحروب الإسلامية على قواعد وأحكام تمنع إتلاف الزروع والأشجار وتخريب العمران ليعلم الناس أنها شريعة تستمد نظامها من السماء لا من قوانين الغابة في الأرض، ولا من تحكُّم القوي في الضعيف، بل هي في كل أحوالها لنصرة الضعفاء وحمايتهم من الأقوياء كما جاء في القرآن الكريم: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]، ولم يعرف التاريخ جيوشًا رفيقة بالأسرى كجيوش المسلمين الذين اتبعوا أوامر دينهم، ولذا حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على الرفق بالأسرى فقال: «اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا»[1].
لقد ضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المثل العظيم في إنشاء دولة، وفي بناء أمة واصطدم في بنائه هذا مع قوى البغي الموجودة آنذاك، والتي كانت متمثلة في كفار الجزيرة العربية وفي مقدمتهم كفار مكة واليهود بقبائلهم المختلفة، وكذلك الدولة الرومانية العملاقة، ومع هذا الاصطدام قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة في مكة والمدينة وتحمل الأذى بغية إقامة شرع الله تعالى وتطبيقه، ثم دخل صلى الله عليه وسلم في معاهدات ومعارك وغزوات فكتب الله له النصر والتوفيق حتى قامت دولته فتيَّة أبيَّة.
ومن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى الخلفاء الراشدون دولةً عظيمةً استطاعت أن تدكَّ عرشي دولة الفرس التي كانت دولة العالم العظمى في المشرق، ودولة الروم التي كانت دولة العالم العظمى في المغرب، وتمكنت الدولة الراشدة من وضع المسلمين في صدارة الدنيا وتفوقت على الجميع سياسيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا وحضاريًّا وأخلاقيًّا، وقبل كل ذلك وبعده تفوقت عليهم عقائديًّا فاستطاعت أن تُصلح دنياها بدينها، وأن ترفع مستوى الحياة في دولتها بشريعة ربها، وحقَّقت المعادلة الصعبة التي تجمع سعادة الدارين: الدنيا والآخرة.
لم تقف مسيرة الأمة الإسلامية عند زمن الخلفاء الراشدين، بل اكتمل مشوارها الحضاري مع دول عظيمة جليلة حقَّقت المجد والشرف، ورفعت اسم المسلمين عاليًا في كل مكان، فكانت الخلافة الأموية والعباسية، وكانت الدولة الأيوبية والمماليك، وكانت الدولة العثمانية العظيمة، وكانت الدول القوية الكثيرة في تاريخ الأندلس ومثلها في بلاد الهند، إضافة إلى دولة السلاجقة والدولة الزنكية وغير ذلك من الدول التي غيَّرت من مسيرة الإنسانية تغييرًا إيجابيًا رائعًا يضيف إلى رصيد أمة الإسلام العملاقة.
وإذا تجاوزنا ما قدمه المسلمون من إسهامات وأفكار وخطط وأسلحة مبتكرة وأدوات حرب، ووقفنا أمام الفتوحات الإسلامية للبلدان، سنجدها إنجازًا عظيمًا، فكم حرَّر الإسلام من شعوب عاشت تعاني من العنف والقهر والعمل بالسخرة تحت نير طغيان حكامها وقهرهم، لقد استطاع المسلمون نشر دينهم بالفتوحات، ويكفي ما كانت تبديه دول الإسلام في فتوحاتها من معاملة طيبة لكل الشعوب على اختلاف أعراقها ومللها، فالفتح الإسلامي كان فتحًا للقلوب قبل العباد.
التاريخ الإسلامي حقًا هو كنز عظيم يزخر بالأحداث والقصص والعبر والدروس، ولعل ما يدور اليوم من تراجع الدور الإسلامي، بل وانهيار منظومة الدولة الإسلامية، يرجع إلى الاستغناء عن الدروس والعبر من تاريخ من سبقونا، وإذا كانت الأمم الغربية تفتخر بقوتها المادية وتقدمها الصناعي فإن لنا ماضيًا مجيدًا بلغت فيه الأمة الإسلامية من الرقي والأخلاقي والمادي مالم تبلغه أمة من الأمم، وإننا حينما نحيي مآثرنا ونردد مفاخر ماضينا فليس ذلك لمجرد استجلاب النشوة بتذاكر أيام عزنا ومجدنا، وليس ذلك لمجرد الاستعلاء على الآخرين، أو تعزية النفوس عن النقص الحاضر بترديد مفاخر الكمال في الماضي؛ وإنما ليكون ذلك دافعًا إلى انبعاث الحياة في النفوس لتعود هذه الأمة إلى رقيها الأخلاقي الكامل، ولتأخذ بأسباب التقدم المادي المناسب لعصرها حتى تكون كسلفها الصالح أقوى وأكبر أمة في هذه المعمورة.
والحق الواضح أن فخر كل أمة ومصدر اعتزازها يكمن في تاريخها، وقد عرف تاريخ الأمة الإسلامية مواطن جهاد وغزوات ومعارك سطرها المسلمون بأحرف من نور ردُّوا فيها موجات العدوان والطغيان، كما عرف التاريخ الإسلامي رجالًا وأبطالًا عظماء سطروا صحائف من نور بدمائهم وأروحهم وجهدهم وعرقهم من أجل دينهم وأمتهم، رجال تغلغل الإيمان في قلوبهم، فلم يبق لهم همة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس، إنهم رجال آثروا مرضات الله عز وجل على متاع الحياة الدنيا، فتركوا الراحة والسكون وهجروا الفراش والديار والأهل والأحباب، وصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفقاءهم، فلا عجب إذًا أن تنتهي حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال أفريقيا، وذاك في أحراش الهند، وكلهم راض بهذه الحياة وهذه النهاية، طالما توجت حياته بأسمى ما يريد: الشهادة في سبيل الله.
إنَّ التاريخ الإسلامي لهو أفضل تاريخ في الدنيا كلها، ومع ذلك فلا يعرفه إلَّا القليل من الناس، وللأسف الشديد سقط من ذاكرة الكثير من المسلمين وتاه في طي النسيان والغفلة على الرغم من أننا نرى الأمم من حولنا في كل يوم تحتفل بانتصاراتٍ لهم محدودة الأثر، بل إننا نرى الأمم من حولنا تخلد ذكرى رجال لا خلاق لهم عند الله ولا عمل لهم صالح، بل ربما تخلد ذكراهم بسبب ما قدموه من خدمات وأدوار في محاربة الإسلام والمسلمين[2].
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر.... ضل قوم ليس يدرون الخبر
[1] الطبراني: المعجم الكبير (18829).
[2] راغب السرجاني: مقدمة كتاب دول لا تنسى، وشريف عبد العزيز الزهيري: مقدمة كتاب أبطال سقطوا من الذاكرة، وتامر بدر: مقدمة كتاب أيام لا تنسى، وتامر بدر: مقدمة كتاب دول لا تنسى، ونواف أحمد عبد الرحمن: مقدمة كتاب حضارة الأندلس.
قصة الإسلام