لا شك أن عامل الغزو الأجنبي على اللغة قد استحوذ عليها وتسلل إليها من خلاله الجم الغفير من الكلمات والاصطلاحات، وبالتأمل في الاحتلال الانجليزي للدول العربية نجد أن اللغة الانجليزية قد فشتْ في لغة قومنا حتى غدا تدريس المواد الدراسية بالإنجليزية في مختلف الجامعات والمعاهد والكليات، وكان لهذا نتيجة متوقعة حيث انهمر سيل من المفردات والعبارات من الإنجليزية والفرنسية إلى العربية.
وعلى حين فترة من الزمن وبعد ترجمة العلوم المختلفة بالعربية أكثرَ المولدون من استعمال (المصدر الصناعي) في اصطلاحات العلوم وغيرها، ومن المعلوم بالضرورة في واقع الدراسات النحوية أن المصدر الصناعي قياسي ويُصاغ من كل لفظ جامد(كالحجرية، والإنسانية، والحيوانية، والكمية، والكيفية، والأسلوبية..)، أو مشتق( كالفاعلية، والحرية، والعالمية، والتوليدية ، والتحويلية، والتجريبية..)..بيد أن توسع المحدثين في استعمال المصدر الصناعي قد أضفى على لغة البحث صبغةً صناعية جامدة لا إلى الجزالة ولا إلى البساطة، وانتهى بهم الحال إلى إدخال كثير من المفردات الأجنبية إلى العربية وتجريدها من لوازمها التي تفيد المصدرية أو الاسمية في لغتها الأم، وإلحاق الياء المشددة وتاء التأنيث المربوطة، لتصير بعد زيادة الحرفين اسمًا دالًا على معنى مجرد يمكن الاستعاضة عنه بمصطلحات عربية فخمة رشيقة فصيحة، وإليك بعضًا من تلك النماذج:
-مصطلح: "" Ideology..أُخِذ هذا المصطلح فتُرجِم إلى (أيدولوجي)، ثم ألحقوا به الزوائد التي تلحق المصدر الصناعي في العربية(الياء المشددة والتاء المربوطة) حتى صار (أيدولوجية)، وتعني في العربية: فكريٌّ أو عقائديٌّ.
فماذا يجري في الفصاحة لو استعملنا (الفكرية) أو (العقائدية) بدل هذا الخليط الدخيل؟!
-مصطلح: "Strategy"..حدث فيه مثل ما حدث في المصطلح السابق، فنتج في النهاية مصطلح: (استراتيجية)، ونظير هذا المعنى في العربية: تخطيط أو تنظيم، ويمكنك بكل سهولة أن تصوغ المصدر الصناعي منهما فتقول: تخطيطية، وتنظيمية...فهل ثمَّةَ مثلبةٌ حدثت من فصاحتك أم أن النفس تجنح وراء المستورد حتى في الكلمات؟!
-مصطلح: "Democracy"..ما يقال فيه إلا ما قد قيل في المصطلحين قبله، إلا أنهم حذفوا منه النهاية الدالة على المصدرية أو الاسمية في اللغة الانجليزية(cy) فنتج في النهاية مصطلح: (ديمقراطية)، ويختلف معناه في العربية على حسب الحقل الذي يطلق فيه، فيطلق في السياسة كنظام سياسي ويراد به: سيادة الشعب (حكم الشعب لنفسه مباشرة أو بواسطة ممثليه النيابيين)، فيمكنك صوغ المصدر الصناعي من المعنى العربي( سيادة الشعب) فتقول: (السيادة الشعبية)، أو (السيادة التشريعية) إن كنت تريد الديمقراطية الدستورية.
ومعلوم أن الديمقراطية في الأصل مصطلح يوناني مؤلف من لفظين الأول ( ديموس ) ومعناه الشعب ، والآخر ( كراتوس ) ومعناه سيادة ، فمعنى المصطلح إذًا سيادة الشعب أو حكم الشعب...على أنه سوف يعجزك أن تأتي من العربية بكلمة مفردة تؤدي معنى هذا المصطلح؛ لأنه يعني نوع نظام لا يعرفه العرب ويصطدم بمبادئ الإسلام في أمور ليس هذا موضع بيانها.
-مصطلح: " "Dictatorship... أُخِذ هذا المصطلح وحُذِف منه النهاية الانجليزية الدالة على المصدرية أو الاسمية (ship)، فصار بعد ترجمته: (ديكتاتور) ثم ألحقوا به الزوائد التي تلحق المصدر الصناعي في العربية حتى صار: (ديكتاتورية)، ونظير هذا المعنى في العربية: المستبد، المنفرد، النهائي، والقاطع، والحاسم، والباتُّ، فيمكن أن يقال: حكم نهائي أو حاسم أو قاطع أو بات عند وصفك لحكم الفرد، فإن أردت صوغ المصدر الصناعي منها فيمكنك أن تقول بلا غضاضة: الاستبدادية، الانفرادية، النهائية، والقاطعية، والحاسمية، والباتية...وهلم جرًّا.
-مصطلح: " "Imperialism... أُخِذ هذا المصطلح وحُذِف منه النهاية الانجليزية الدالة على المصدرية أو الاسمية (ism)، فصار بعد ترجمته: (إمبريال)، ثم لحقته الزوائد التي تلحق المصدر الصناعي في العربية حتى صار: (إمبريالية)، وتعني في القاموس العربي: نزعة تسلطية من بعض الدول للاستحواذ على بعض الأقاليم المستقلَّة أو شبه المستقلَّة ، بالسيطرة الاقتصاديّة والسياسيّة، وقد تعني: هيمنة إحدى الدول على أخرى بفضل تميّزها الاقتصادي.
إذًا من خلال هذا التعريف يمكنك أن تستخلص مصطلح: (التسلطية) مصدرًا صناعيًّا، أو (الهَيْمَنة) مصدرًا عاديًّا على زنة (فعللة) للتعبير به عن هذا المعنى، بدل أن نستورد هذا اللفظ الدخيل الغريب المجهول (الإمبريالية) والتي يعوجُّ به ألسنة المستغربين ليُدِلُّوا به على عامة الناس ويستعلوا على ضعيفي الثقافة منهم.
إلى غير ذلك من المصطلحات التي تعج بها الألسنة والأبحاث والمقالات المعاصرة، كـ(الأرشيفية) المترجمة عن (Archival)، و(الفوبيا) المترجمة عن (Phobia)، و(الأجندة) المترجمة عن (Agenda)..إلخ
أليس هذا من البلاء المبين والشر المُبير لأساليب الخطاب وطرق الكتابة؟!...أليس هذا مما يعجل بالمنايا إلى ما استبقاه أجدادنا من جمال العربية وفصاحتها في كتاباتهم ومذاهبهم؟!...أليس هذا ما ألقته أرحام وسائل الإعلام المستغربة وصُحفُها المكرمة المرفوعة فوق الأعناق اليوم؟!
إن العرب قديمًا قد استجلبوا بعض المفردات من لغات أمم أخرى كفارس واليونان والهند والحبش مثلًا بحكم الجوار الجغرافي والتبادل الاقتصادي والتجاري، وهذبوها بآلة التعريب المكينة التي تستند عندهم إلى قواعد صوتية واشتقاقية راسخة لتناسب أوزان العربية، وإنما اضطروا إلى ذلك لمَّا كانت هذه المفردات تخص أشياء قد اشتهرت هذا الأمم بصناعتها أو إنتاجها أو زراعتها، ولم يكن العرب يعرفونها في بلادهم؛ ومن تلك المفردات الفارسية الأصل التي استعملها العرب وورد بعضها في الاستعمال القرآني: ( الديباج، والإستبرق، والسندس، والفالوذج، إبريق، أسطوانة، باذنجان، برنامج، جوهر، خام، خندق، الخيار، درهم، دستور، دهليز، زنجبيل، شطرنج، فلفل، فنجان، قهرمان، كافور، كهرباء، لجام، نموذج، ياسمين، ...) .
تلك كانت علة استخدام هذه المفردات وغيرها عند العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، أما هذه المفردات التي استقدمها الإعلام العصري وأفواهه من اللغات الأجنبية الأخرى اعتباطًا وبدون سبب إلا الرغبة البلهاء في تعويج اللسان وليِّه، ظنًّا أن هذا هو المثل الأعلى في التحضر واللحاق بركب المتحضرين، وفي حقيقة الأمر يضمرون في أنفسهم شعورًا دفينًا من التحلل من كل ما هو عربيٌّ والَّلهث وراء كل ما هو غربيٌّ، ليس لشيء إلا مقتًا للفصحى وازدراءً لها ولمصدرها الأفصح الأعلى القرآن العظيم.