اغتراب الارواح
بحث عن -- الفرزدق -- وعن قصيدته التاريخية الميمية
بواسطة Suzana, 12th June 2011 عند 02:52 AM (841 المشاهدات)
الفرزدق وقصيدته في مدح الإمام زين العابدين عليه السّلام
حسن معتوق
ما زال الأدب العربي يزهو ويفخر بنخبةٍ من الشعراء، اقترن ذكرهم بقصيدة من القصائد رائعة عصماء، نظَمَها قائلُها وأجاد في صياغتها، فتمثلت موقفاً مهماً في حياة ناظمها. من بين تلك القصائد بائية الكميت بن زيد الأسدي، وميمية الفرزدق، وتائية دعبل الخزاعي، ورائية التهامي، ودالية المعري وغيرها من القصائد التي انتشرت وذاعت على ألسنة الناس، وما زالت تنفح الأدب بعطر الفن والجمال.
هذه القصائد كُتِب لها الخلود، لأنها جاءت تعبيراً عن الروح الإنسانية، وما يتضمّن فيها من صدق العاطفة، وجمال الذوق، وسمو الخيال.. وهي في الوقت نفسه، صورة عن إبداع الشاعر فيما نسج من رؤى أو عبّر عن حقيقة يرسم أبعادَها الخيال، ويرفدها الوجدان، ويمد في لحمتها وسداها روعة التصوير، وجمال التعبير، وحرارة الموقف..
إن قصيدة عاشت أكثر من عشرة قرون ونيف، لهي حَرِيّة بالثناء والتقدير. ولم تكن ميمية الفرزدق إلاّ واحدة من عيون الشعر العربي والإسلامي، التي تضمّنت سجلاً لمكارم الأخلاق ومحامد الأفعال.
إنَّ ناظمها، همّام بن غالب التميمي، أبو فراس، الشهير بالفرزدق ( 19 هـ ـ 110 هـ )، شاعر من أهل البصرة، عظيم الأثر في اللّغة، كان يقال: لولا شعره لذهب ثلث لغة العرب، ونصف أخبار الناس. وكان شريفاً في قومه، عزيز الجانب (1).
وُلد في البصرة سنة 19 هـ، وأقام مع والده في البادية، وكانت البصرة حاضرة الأدب والعلم والبيان آنذاك، فروّاه والده الشعر حتّى ظهرت ملكته فيه وهو غلام، فجاء به في يفاعته إلى الإمام علي عليه السّلام في حدود سنة 36هـ، وأخبره أنه شاعر، فقال له الإمام عليه السّلام: « عِلّمْه القرآنَ فهو أنفع له »، فلم ينظم شعراً حتى حفظ القرآن. وقيل إنه قيّد نفسه وآلى على نفسه أن لا يفكّ القيد حتّى يحفظ كتاب الله، فيبرّ بقسمه.
وكان والد الفرزدق وأجداده رؤساءَ عشيرتهم، لهم مناقب مشهورة، ومحامد مأثورة في الكرم والمجد. منها أن جدّه صعصعة كان عظيم القدر في الجاهلية، حيث افتدى الموؤودات من تميم، وكان من عادات بعض قبائل العرب أن تئد بناتها اتقاء العار والفاقة، فلما ظهر الإسلام منع ذلك بشدة. يقول الفرزدق مفتخراً بجده:
وجدّي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلـم يَوأدِ (2)
نبوغه وشهرته
كان لكلام الإمام علي عليه السّلام وقع كبير في نفسه، فحفظ القرآن وروى بعض الحديث، كما أنه التقى في فترة شهرته بالإمام الحسين عليه السّلام، وجرى بينهما حديث مشهور تناقله الرواة. لقد نهل من معين البادية لغة، واكتسب شفافية في المشاعر، وقبس عن الأئمّة منهجاً وعقيدة أهّلته للنبوغ، « فخرج إذ ذاك إلى الميدان الرحيب، كامل العدة من الروح العظيمة البليغة، والذكاء البدوي الحضري. وما كادت تظهر بوادر نبوغه حتّى أحاطه المنافسون بالنقد والهجاء، فمشى معهم في هذه السبيل حتّى غلبهم وبزّهم جميعاً » (3).
مكانته الشعرية
كان مقدماً على أقرانه ومعاصريه عند أكثر أهل العلم واللّغة والشعر. قال أبو الفرج الأصفهاني: « من كان يميل إلى جودة الشعر وفخامته، وشدة أسره، فليقدّم الفرزدق ».
وحين سأل الحجاجُ قتيبةَ بن مسلم عن أشعر شعراء الوقت، فقال: « الفرزدق أفخرهم ».
ومن الأدلة على نبوغه المبكّر في الشعر أنه دخل وهو غلام يافع على سعيد بن العاص وأنشده والحطيئةُ حاضر:
نرى الغرَّ الحجاحجَ من قريشٍ إذا ما الأمرُ في الحدثـانِ آلا
قياماً ينظـرون إلـى سعيـدٍ كأنهـمُ يَـرَون بـه الهـلالا
فقال الحطيئة: « هذا واللهِ الشعر لا ما تعلل به نفسك منذ اليوم، يا غلام أدركتَ مَن قَبلك، وسبقتَ مَن بَعدك ».
وجاء في كتاب الحيوان للجاحظ: « إن أحببت أن تروي من قصار القصائد شعراً لم يُسمَع بمثله، فالتمس ذلك في قصار قصائد الفرزدق، فإنك لا ترى شاعراً قط يجمع التجويد في القصار والطوال غيره ». وله من بديع النظم:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ليلٌ يصيـح بجانبَيهِ نهـارُ (4)
مواقفه الجريئة مع الحكّام
كان الفرزدق يمتاز بقوة الشخصية والجرأة، إلى كونه شاعراً مطبوعاً على الثورة والتمرد، وهو معتز بنفسه يملأ كيانَه الفخر، ويهتز عزة وأريحية. فمِن ذلك أنه حضر يوماً عند سليمان بن عبدالملك الأموي، وهو يومئذٍ حاكم، فقال سليمان للفرزدق: أنشدني شيئاً. وإنما أراد سليمان أن ينشده مدحاً له، فأنشده في مدح أبيه غالب، والد الفرزدق:
وركبٍ، كأن الريح تُطلّب عندهم لها ترةً (5) من جذبها بالعصائبِ
سروا يخبطون الليل وهو يلفّهـم إلى شُعَبِ الأكوار ذاتِ الحقائـبِ
إذا آنسـوا نـاراً يقولـون إنهـا وقد خضرت أيديهمُ (6) نارَ غالبِ
فغضب سليمان. ومن اعتداده بنفسه أنه كان لا ينشد الولاة والأمراء إلاّ جالساً، ولم يكن الفرزدق حينما مدح بعض الأمويين طلباً للجِدة (7) أو اتقاءً للأذى، مُستلَبَ الإرادة خوّار الهمّة، بل كثيراً ما كان يوجِّه سهام شعره ويفوِّقها دونما خوف أو وجل إلى الحكّام أنفسهم، حينما يشعر بالضيم يلحقه.
ولاؤه وعقيدته
كان الفرزدق موالياً لأهل البيت عليهم السّلام، مناصراً لعلي وأبنائه عليهم السّلام، مجاهراً بحبّه لهم، وإذا مدحهم تدفق شعره عاطفة وحماسة، فلا نرى فيه أثراً لتكلّف المادح المتكسّب، وخير دليل على صدق موالاته آل البيت عليهم السّلام، قصيدته في زين العابدين علي بن الحسين عليه السّلام، وهي من أبلغ الشعر وأخلصه عاطفة. يقول ابن خَلِّكان في أعيانه: « وتُنسَب إلى الفرزدق مكرمة يرجى له بها الجنّة ». وهي أنه لما حج هشام بن عبدالملك، فطاف وجَهِد أن يصل إلى الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه من كثرة الزحام، فنُصِب له منبر وجلس عليه، ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام. وفيما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر، تنحّى له الناس، وانشقت له الصفوف، ومكّنته من استلام الحجر، فقال رجل من أهل الشام: منْ هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة ؟! فقال هشام: لا أعرفه ( مخافة أن يرغب فيه أهل الشام ). وكان الفرزدق الشاعر حاضراً، فقال: أنا أعرفُه! فقال الشاميّ: مَن هذا يا أبا فراس ؟ فقال الفرزدق وأطلق قصيدته الشهيرة العصماء (8).
قصيدة الفرزدق
هـذا الـذي تـعرف البطحاءُ وطأتَه
والـبيتُ يَـعرِفه والـحلُّ والـحرمُ
هـذا ابـنُ خـيرِ عـبادِ الله كـلِّهمُ
هـذا الـتقيُّ الـنقيُّ الـطاهرُ العَلَمُ
هـذا آبـنُ فـاطمةٍ إن كنتَ جاهِلَهُ
بـجَـدِّه أنـبـياءُ الله قـد خُـتِموا
هــذا عـلـيٌّ رسـول الله والـدُه
أمـسَتْ بـنور هـداه تـهتدي الأممُ
إذا رأتــه قـريـشٌ قـال قـائلها
إلـى مـكارمِ هـذا يـنتهي الـكرمُ
يـكـاد يُـمـسكه عـرفانَ راحـته
ركـنُ الـحطيم إذا ما جاء يستلمُ (9)
الله شــرّفـه قِـدْمـاً وعـظّـمه
جـرى بـذاك لـه فـي لوحِه القلمُ
يُـنمى إلـى ذُروة العزّ التي قصُرَتْ
عـن نـيلها عـربُ الإسلامِ والعجمُ
مـشتقّةٌ مـن رسول الله نبعتُه (10)
طـابت مغارسه والخيم (11) والشيمُ
يـنشقّ ثـوبُ الدجى عن نور غُرّته
كـالشمس ينجاب عن إشراقها الظُّلمُ
يُـغضي حـياءً ويُغضى من مهابته
فـمـا يُـكـلّمُ إلاّ حـيـن يـبتسمُ
مـا قـال لا قـطُّ إلاّ فـي تـشهده
لـولا الـتشهد كـانت لاؤُه نَعمُ (12)
عـمّ الـبريةَ بـالإحسان فـانقشعت
عـنها الغياهبُ والإملاقُ (13) والألمُ
كـلـتا يـديه غـياثٌ عـمّ نـفعُهُما
يُـستوكَفانِ (14) ولا يَـعْروهما عَدَمُ
سـهل الـخليقة لا تُـخشى بـوادره
يَـزينه اثـنانِ: حُسنُ الخُلْقِ والكرمُ
لا يُـخلف الـوعدَ مـيمونٌ نـقيبتُهُ
رحب الفِناء، أريب (15) حين يعتزمُ
حـمّـال أثـقالِ أقـوامٍ إذا فُـدِحوا
حُـلْوُ الـشمائل تـحلو عـنده نِـعَمُ
هـم الـغيوث إذا مـا أزمـة أزمَتْ
والأُسـدُ أسـدُ الشَّرى والبأس مُحتدِمُ
لا يُـنقص الـعسرُ بـسطاً من أكفّهمُ
سـيانَ ذلـك إن أثْـرَوا وإن عَدِموا
أبـى لـهم أن يـحل الـذمُّ ساحتَهم
خـيم كـريم وأيـدٍ بـالندى هـضمُ
مِـنْ مـعشرٍ حـبُّهم دِيـنٌ وبغضُهمُ
كـفرٌ، وقـربُهمُ مـنجى ومُـعتصَمُ
مُـقـدَّم بـعـدَ ذِكْـر الله ذِكـرُهمُ
فـي كـل بـدء ومـختومٌ بـه الكَلِمُ
إن عُـدّ أهـلُ الـتقى كـانوا أئمتَهم
أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيل: هُمُ
لا يـسـتطيع جـوادٌ بـعد غـايتهم
ولا يُـدانـيهمُ قــوم وإن كـرموا
مَـنْ يـعرفِ الله يـعرفْ أوّلـيةَ ذا
فـالدينُ مِـن بـيت هـذا ناله الأممُ
ولـيس قـولُك مَـنْ هذا ؟ بضائره
الـعُرْبُ تـعرف مَنْ أنكرتَ والعجمُ
فلما سمع هشام هذه القصيدة، غضب وحبس الفرزدق، فأنفذ إليه الإمام علي بن الحسين عليه السّلام عشرين ألف درهم، فردّها وقال: مدحتُكم لله تعالى لا للعطاء، فقال الإمام عليه السّلام: إنّا أهل البيت، إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده، فقَبِلها (16). وعندما حبس هشام الشاعرَ بين المدينة ومكة، قال:
أتحبسُني بين المدينـة والتـي إليها قلوب الناس يهوي مُنيبُها
تُقلّب رأساً لم يكن رأسَ سيـدٍ وعينٌ له حولاءُ بادٍ عيوبُهـا!
ولكن هشاماً أطلقه خوفاً من لسانه (17).
يقول السيّد الأمين في أعيانه: « هذه القصيدة قلّما يخلو منها ومن خبرها كتابُ أدب أو تاريخ، قديماً وحديثاً، وذلك لأن قصيدته تتعلق بفضل إمام من أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، له مكانته بين المسلمين، وقد شهد له بالفضل محبّوه وخصومه، وقد حفظها التاريخ لطرافتها ودلالتها على جرأة عظيمة، وقوة جنان وإقدام من الفرزدق، فجابه هشاماً بما جابهه، مجاهراً بالحق أمام شخص يُخاف ويُرجى، وهو شاعر يأمل الجوائز من بني أميّة، فآثر دينه على دُنياه صدعاً بالحق » (18).
مناقشة رأي الدكتور إحسان عباس
ذكر الدكتور إحسان عباس أثناء تحقيقه لكتاب « وفيات الأعيان »، في هامش القصيدة التي أوردها ابن خلكان في مدح الإمام زين العابدين عليه السّلام من شعر الفرزدق. أورد الدكتور العبارة التالية: « والقصيدة صحيحة النسبة إلى الفرزدق في رأي أبي الفرج الأصفهاني، وإيراد القصة على أن القصيدة جاءت عفو الخاطر، أو أن الفرزدق كان متوقعاً ذلك السؤاله، فيه قدر من السذاجة » (19).
وهو رأي لا ينفرد به الدكتور عباس، بل ربما عثرنا على آخرين يرون مثل هذا الرأي، وهم الذين يُسقطون في العادة، القصائدَ والأبيات من دواوين أصحابها، حينما لا تتلاءم مع ما يعتقدون أو يرتأون. ولئن كان التشكيك في عفوية صدورها وإنشادها ارتجالاً يُراد من ورائه التشكيك في صحة وقوع الحادثة نفسها؛ فما نقول عن تواترها الذي بلغ حدّ الإجماع لدى أئمّة الآداب والعلم واللّغة، فصاحب « الأغاني » و « العقد الفريد » و « زهر الأداب » و « وفيات الأعيان » و « معجم الشعراء » و « شرح شواهد المعنى » ومؤلفو هذه الأسفار التي هي من أمهات كتب التراث من الأصفهاني، إلى ابن عبدربه الأندلسي والحصري القيرواني وابن خلكان والمرزبائي والسيوطي، وغيرهم من علماء الفقه والأدب، كسبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواص » والشبلنجي في « نور الأبصار » وابن الصباغ المالكي في « الفصول المهمة »، وابن حجر العسقلاني في « الصواعق المحرقة »، والكنجي الشافعي في كتابه « كفاية الطالب »، وأبي نُعَيم في « حلية الأولياء » (20).
قال شيخ الحرمين أبو عبدالله القرطبي: « لو لم يكن لأبي فراس عند الله عمل إلاّ هذا، دخل به الجنّة، لأنها كلمة حق عند سلطان جائر! » (21).
ناهيك بما أورده السيّد المرتضى الذي قال: « إن الفرزدق مع تقدمه في الشعر وبلوغه فيه الدرجة العليا والغاية القصوى، شريف الآباء، كريم البيت، ولآبائه مآثر لا تدفع، ومحامد لا تجحد » (22).
وقد نقل السيّد الأمين في أعيانه عن كل من ذكرنا، وأن القصيدة نقلها عن الطبعة الألمانية، ووصفها بأنها محققة ومضبوطة.
هذا في سند القصيدة، أمّا في إمكانية صدورها عن شاعر فحل هو من المقدّمين في الطبقة الأولى من أشعر ثلاثة هم: جرير والأخطل والفرزدق، فهو صادر من معدنه.
إن مَنْ حفظ شعره ثُلثَ اللّغة، ونصف أخبار العرب، لا يبعد أن ينظم قصيدة كهذه، وهو من الفحول المتقدمين، لا سيما إذا أسعَفَته العاطفة، وأيّدته القريحة، وكان مستنفراً في موقع، ينافح فيه عن عقيدته، ويصدر عن رأي يلهب الخيال، ويذكي الشاعرية.
أما فيما يعود إلى ارتجال الشعر فهذا أمر واقع لا غرابة فيه، فلو أحصينا ما ارتجله الشعراء، قديماً وحديثاً، لوجدنا قدراً ليس باليسير، فإن من البيان لَسحراً، وكان الشاعر يُقرَن بالساحر والحكيم والمتنبئ والمبدع وغير ذلك من صفات القدرة الخارقة والإعجاز المبهر. أو لم يمرّ معنا أن سليمان استنشد الفرزدق شعراً فأنشده مُفاخِراً بأبيه، وهَبْ أن مقطوعته تلك، كانت معدّة سلفاً للإنشاد، فما قولك عن نُصَيْب الشاعر الذي كان حاضراً وأجاب على مقطوعة الفرزدق بشعر يجاريه في القافية عينها والرويّ نفسه.
والدكتور عباس يعدّ من المحققين في الأدب، ولم يَعقُلْ عن إثبات القصيدة في كتاب « وفيات الأعيان » الذي حققه الدكتور نفسه، ولم ينقص منها بيتاً واحداً.
هذه القصيدة تنمّ عن عقيدة الفرزدق التي لا ينافيها مجاراته أحياناً لبعض ولاة عصره، تكلّفاً وتقية، فيقول بطرس البستاني: « على أن مدحه لهؤلاء لم يكن إلا تكلّفاً إذا قابلناه بهذه القصيدة الميمية، فهو عاطفي، صادق، ينطق عمّا في نفسه من هوى » (23). ومما يؤيد رأينا كون القصيدة تشتمل على بعض الألفاظ المكررة كاسم الإشارة ( هذا )، أو لفظ ( ابن ) في مقام التعريف عن الإمام، وكذلك تكرار القافية أحياناً دليل على كونها أُنشِدت ارتجالاً، وما المانع إذا كانت معانيها حاضرة في وجدان الشاعر وعقله وعاطفته، فهي كالماء الذي ينبجس من الصخر، وقد كان مختزناً في طبقات الأرض، والشاعر قويّ العارضة، حاضر البديهة، مطبوع، قال الشعر في حداثته وهو ابن عشر ونيّف، حفظ أوابدَ اللغة وشواردها، وكان شعره ممّا يُستشهَد به، ويرجع إليه في تدريس علمَيِ النحو واللغة.
ولئن شرّق الفرزدق أو غرّب في عالم الشعر، فتغزل ومدح وهجا وأطرف وأغرب في شعره، ونقائضه، فإنه احتفظ في كنانته بسهم صادق النصل ماضي الحد، أعدّه لمناسبة يضمن بها الجنّة ـ كما قال ابن خلكان ـ ليصبح واحداً من أصحاب القصائد المُعْلَمة كما اشتهر غيره بمعلّقة أو مذهّبة أو يتيمة أو موشّح.
وبذلك غدا الشاعر الفرزدق في ميميته عنواناً للتطابق بين الشعر والموقف، وبين الفن والعقيدة، والأدب والالتزام، فكان مصداقاً لقول الشاعر:
وإنّ أفضل بيتٍ أنت قائلُه بيتٌ يُقال إذا أنشدتَه صَدَقا
- التصانيف
- غير مصنف