عماد الحمزاوي

الوهم

تقييم هذا المقال
بواسطة عماد الحمزاوي, 2nd June 2013 عند 08:57 AM (380 المشاهدات)

عندما يغادر المنزل وحين يعود إليه ولأي سبب كان خروجه و إلى أية جهة كان إتجاهه ، كان لا بد من أن يمرّ ليلقي نظرة طويلة إلى ذلك الزقاق الضيقّ . إلى الباب الخشبي الذي عاث فيه السوس فساداً . منذ تسعة عشر عاماً . قبل أن تنتقل إلى بيت الزوجية . يوم كانت في ربيعها السادس عشر . منذ ذلك الوقت ، علق بها . من غير أن تشعر به إطلاقاً . إنه يملك عنها الآن معلومات لا حصر لها . حتماً لا يملك عنها زوجها تلك المعلومات . فهو يعرف كل ما تحب وتكره ، من طعام أو ملبس ، وما يجول في رأسها من أحلام . يعرف متى تغادر المنزل إلى السوق ، ومتى تعود إليه . وفي أي يوم من أيام الأسبوع تزور فيه أقاربها . وأي من أقاربها تزورهم في فترات منتظمة . وأي منهم تزوره في فترات متباعدة . والأنكى من ذلك كله ، كان يعرف مغامراتها العاطفية . إذ أحبت لفترة قصيرة أبن جيرانها . ثم تزوجت ، لتعشق بعد ذلك شخصاً آخر وتغرق معه في حب عنيف جارف ولفترة طويلة جداً . لتتركه بعد ذلك الحب في حالة يرثى لها . ومع مرور الزمن . ومن كثرة التفكير بها ، بات على قناعة تامة وكما لو كانت حقيقة ، إنها زوجته وأن أولادها أولاده . والمنزل الذي تسكنه منزله . لقد سيطر عليه ذلك الشعور سيطرة تامة . كم من مرة في المنام دخل ذلك المنزل وتصرف معها كزوج ، وهو نفسه لا يدري . كعادته كل يوم ، أنعطف سامي إلى الجهة التي تسكن فيها حبيبته . على أمل أن يلمحها ولو من بعيد . ناكس الرأس ، مفكراً ، أسند ظهره إلى زاوية حادة من زوايا أحد البيوت وراح يتوغل عبر السنين ، إلى يوم كان فيه شاباً يافعاً في السابعة عشر : _ لا تقع في فخها يا سامي ، أعرض عنها . هي على علاقة آثمة بأحد أصدقائي . _ لا ، ليس هذا صحيحاً . ذلك الوجه الملائكي . أيعقل ذلك ؟! _ مع شديد الأسف ، إنها الحقيقة . وما يزال يحتفظ بلباسها الداخلي . أي غضب مزّق شرايينه وأي هياج أطار بعقله وأي قنوط بطش به لحظة دار ذلك الحديث بينه وبين صديقه كوركيس . وتوغل أكثر عبر سنوات مظلمة وبعيدة . فتذكر ما دار بينه وبين صديقه جورج من حديث : _ إنها رسالة من ليندا ، تعرفت عليها مؤخراً . سأقضي معها أوقاتاً ممتعة، إلى أن أتزوج جانيت . إقترب مني يا سامي ، إقترب أكثر . إسمع ما كتبته لي . أي أسلوب رقيق وأية مشاعر صادقة . إسمع شرع جورج يقرأ على مسامع سامي رسالته التي كتبها لها أمس ، ها هي تتلى عليه صباحاً ، نصاً وروحاً . من غير أن تسهو أو تخطأ . من يدري بالذي أصاب سامي بعد ذلك . لقد تطايرت نفسه ندماً وحسرة . أية لعنة تطارده ؟ كل من أحبها إما أن تكون فاجرة لا تفكر بحياة مستقرة وإما لعوب تحب عدة شبان في آن واحد . وفي أحسن الأحوال ، تتزوج بعد فترة قصيرة . لذلك كله نفض سامي يديه من كل حب ظل يتعثر في وعورة الحب سنوات . أخيراً ، أحب نادية . أحبها كما لم يحب أحد من قبله. حباً شبحياً ، جنونياً . لم يفكر في يوم من الأيام أن يصارحها بحبه . ولم يفكر أن يجد عذراً ما للإلتقاء بها للحديث معها لمجرد الحديث . أحبها ولم يجعلها تشعر بوجوده . لقد فرض ذلك الحب ذلك الوهم على نفسه فرضاً . فكان أن أقتنع به بمرور الأيام . ثم آمن به عميقاً .. وأخذه الوهم بعيداً .
ذات يوم إستيقظ سامي من نومه صارخاً . لقد رآها في المنام تشكو له زوجها السكير . فخرج كالمجنون يعدو مرة ويمشي مرة . حافياً ومتماسكاً ، كمن تسنده قوة هائلة . كقوة مجانين ومتسولي جميع العالم . توقف عند رأس الزقاق، يلهث . وقد جف لسانه . ويمر الوقت ينهار سامي على الأرض .. أخيراً خرج الزوج السكير من المنزل مترنحاً. إنتصب سامي واقفاً . فيما السكير منه يقترب . نفضه سامي بنظرة ثم أشاح عنه وجهه والقى نظرة خاطفة على المنزل . حين صارا وجها لوجه . قال السكير : _ هو انت إذا ؟ _ نعم أيها السكير ، هو أنا . إرتعدت فرائص السكير وأنقبضت أساريره . أراد أن يصفع سامي ، لكنه شعر أن يديه لا تطاوعانه كما لو كانتا يداً مومياء . إرتفعت أخيراً يد السكير صغيرة ناعمة ، راعشة كريشة. صفع السكير ، سامي . سامي الذي لم يتوقع ذلك منه. مع الصفعة سقط السكير على الأرض . فساعده أحدهم على النهوض . إقترب من سامي . فوجه إليه سامي لكمه صغيرة مشفقة . كان مشهد السكير يدعو إلى تلك الشفقة . شرع يسب فاحشاً . فهجم عليه سامي وشده من تلابيبه . حين وجده فاقد الوعي ، أشفق عليه ثانية . فدفعه برفق . في تلك الأثناء خرجت من الزقاق إحدى قريبات السكير وهي تصيح مستغيثة . فصاح بها سامي : ( لا تخافي ، لن أفعل به شيئاً .) فهدأت في الحال . تجمهر عدد آخر من الرجال . فصرخ بهم أحدهم : (تفرقوا رجاء ، لا شيء هنا . إنهما السكير أبله والمجنون سامي !) بعد أن تفرق الناس وصل الخبر إلى نادية . فأقبلت صارخة أستقبلها سامي باسماً وبادرها قائلاً : _ لا تخافي ، لم أوذيه ، ولن اُؤذيه أبداً . صرخت نادية في وجهه مرعوبة : _ إبتعد عني أيها المجنون ، إبتعد . وراحت تنظر إليه ، إلى قدميه الحافيتين ، بإحتقار . إبتعد سامي وهو يلتفت إليها بعد كل خطوة . وقف حزيناً على بعد. ونادية ترمقه بغضب أصفر . ثم تلتفت إلى زوجها السكير . وتسحبه من يده . فيسحب يده من يدها بعصبية ثم يبصق عليها صارخاً : _ أتركي يدي أيتها العاهرة . مضى سامي بعد أن توارت نادية عن ناظريه . راح يركض وهو يصرخ بين وقت وآخر ، صرخة ترعب سامعها (مجانـ..يـ...ن) وبعد كل صرخة يحدق بعينين دامعتين ، إلى الكروش المترهلة ، إلى اللغود الهابطة ، إلى الأوداج المنتفخة . فيشحن بالجنون ... (مجانـ .يـ.. ين . ) ويركض ويركض وأبداً عكس إتجاه المنازل .
التصانيف
غير مصنف

التعليقات

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال