نبوبولاصر الحسيني
قراءة نقدية
بواسطة نبوبولاصر الحسيني, 7th July 2024 عند 02:25 PM (3903 المشاهدات)
البعد التاريخي في رواية (رسول بابل الأخير) للروائي
نبوبولاصر الحسيني
بقلم الناقد طالب المعموري
للرواية التاريخية مكانة مميزة في مجموعة الاجناس الادبية ، وتتميز كونها ترتكز الى التاريخ وما دونه السابقون من أحداث وهذا يجعل صلته بالنصوص الماضية ..
بين يدي رواية (رسول بابل الاخير) للكاتب نبوبولاصر الحسيني في طبعتها الثانية من اصدارات دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع 2023 وفي طبعتها الاولى التي جاءت باسم كاتبها الصريح.. والتي تضمنت الرواية ثمانية فصول جعل لكل فصل عنوان بواقع 260 صفحة
(رسول بابل الاخير)هي واجهة العمل السردي، فمن خلال استقراء العنوان وما ينطوي عليه من دلالات يمكن ان نتوقع ما سيحكيه النص الذي نقبل عليه ، يعمل كبنية متقدمة توحي الى متن الرواية ، يملي علينا النظر فيه بما يتوافق معها ، من حيث علاقته بالتاريخ لان التاريخ لا يتمظهر من خلال النص المركزي فحسب وانما يتمظهر من خلال العنوان فمن خلال سيميائية العنوان واسم المؤلف المستعار تجعل القارئ الذي يؤدي وظيفته التسموية او التعينية يحاول القارئ أن يعين نوع النص ويحدد مضمونه، فان أول ما يتبادر الى ذهنه ويثير لديه الحدسية والفضول لاستكمال العمل الروائي ، أن نوع النص هنا هو تاريخي فالقارئ من البداية يهيئ نفسه لقراءة عمل فني ذي صلة بالتاريخ، لكن تبقى دلالة العنوان الحقيقية غائبة ومراوغة، الأمر الذّي يدفع بالقارئ إلى محاولة تحديد هذه الدّلالة، من خلال البحث في كلّ هذه الـتّعالقات.
رواية (رسول بابل الاخير) يمتزج فيها التاريخ بالخيال يصور فيه الكاتب العهد البابلي بأسلوب روائي مبني على معطيات التاريخ،
وهوعمل سردي يرمي الى اعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيلية حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة..
(سلطان ، نورس ،موجة، ساركون، سالاريا، سيفيل، الكاهن ناجايد )
شرع الروائي يروي لنا بلسان الراوي العليم العارف بشخوصه وعبر سارد مشارك (سلطان ) يروي حالة الغيبوبة والسفر عبر الزمن الذي رجع من خلالها الى اربعة آلاف عام للوراء ، الى حضارة بابل وكيف شاهد أماكن ومعابد والتقى بشخصيات وكهنة وتعرف على طقوس وعبادات، والأعياد
قدم لنا عمله الادبي مادة التاريخ وتطويعها في النص الروائي كتقنية سردية تجريبية يوظف فيها الروائي رؤيته وتجاربه:
" لطالما شعرت أن روحي مثل طفلة تتوه بين بين شارع الموكب الذي كانت تمر عليه مواكب المحتفلين بعيد( الأكيتو) وهم يحملون تماثيل الآلهة من بداية معبد مردوخ الى نهاية المدينة" ص54
يعرف جورج لوكاتش الرواية التاريخية بأنها" رواية حقيقية، أي رواية تثير الحاضر ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق للذات " فهي بالتالي عمل فني يتخذ من التاريخ مادة له ، ولكنها لا تنقل التاريخ بحرفيته ، بقدر ما تصور رؤية الكاتب له وتوظيفه لهذه الرؤية عن تجربة من تجاربه ، او موقف من مجتمعه يتخذ من التاريخ ذريعة له.
الرواية التاريخية والزمن
تمكن الروائي عبر روايته التاريخية ذات الاتجاه الواقعي التي تستدعي التاريخ ، لتتخذ منه قناعا فنياً للتعبير عن نفسه، فالتاريخ وما يحويه من تجارب انسانية جمة مكون هائل وثري للأحداث والشخصيات ..
اعتمد الروائي في اسلوبه ان يجمع ما بين الرواية التاريخية التقليدية التي تعتمد أحداث ووقائع تاريخية موثقة حدثت بالفعل في الزمن الماضي محافظاً على الامانة في نقل الاحداث والمواقف التاريخية العامة والابتعاد عن تزيفها ، وصوغها اعني تلك المادة التاريخية بشكل فني خيالي دون التأثير على الصبغة العامة للحدث التاريخي هذا من جهة والرواية التاريخية الجديدة من جهة اخرى التي تحمل معاني عميقة تمس الواقع المعيش وربط الزمن الماض بالزمن الحاضر. والذي يحاول فيها الكاتب ان يعبر عن افكاره وايديولوجيته الخاصة ، معتمدا على الخيال كعنصر اساسي في بناء الحدث .
لغة الرواية وجمالية الاسلوب
اعتمد الكاتب اسلوب لغوي سردي بسيط قريب من فهم الناس ليوصل اليهم معلوماته التاريخية بأسلوب واضح سهل وسلس، قام الروائي بدور الراوي العالم العارف بكل احداثها وتفاصيلها مصورا الشخصيات بأبعادها النفسية والجسدية ومحركا اياها ضمن اطار ثنائية الخير والشر أو الشقاء والسعادة
اعتمد الكاتب في الكثير من بنياته السردية اللغة المباشرة والتقريرية
"فقال لها وما هو الاكيتو؟
فأجابت هو عيد رأس السنة البابلية ، وهو من الاعياد الذي تشارك فيها الآلهة والملك والجماهير، فتقام طقوس ومراسيم كثيرة تتضمن القيام بالعبادات والشعائر، وتجتمع آلهة بابل وكيش ونفر والوركاء .."ص91
بينما نلمس في موضع آخر وهو يسرد احداثه لم يقتصر على الجانب التاريخي فحسب وانما تعداه الى الجانب الغرامي وهو الجانب الفني الابداعي الذي اطلق الروائي فيه العنان لخياله ليظهر مدى قدرته على البناء الفني للرواية
والرواية ذلك الجنس الادبي النثري السردي التخيلي ، تحاول التقاط ما هو جوهري وجدلي في علاقة الانسان بالتاريخ ، لتسهم بشكل فاعل وحاضر في تقديم صورها لهذه العلاقة وفق منظورها الفني الخاص.
يشتغل الحدث التاريخي ضمن الحدث الروائي الحقيقي / التخيلي
اعتمد الروائي في خطابه الروائي لغة تخاطب العقل تارة حين يحضر السرد التاريخي ويعقبه التعليم والافادة يرفد سرده الروائي باقتباسات وضعها بين قوسين " هنا معبد ننماخ كان معبداً قديماً أعيد بناءه في عهد الملك نبوخذنصر الثاني بحدود 562-604 ق.م وهو يقع الى الشرق من بوابة عشتار ويسمى معبد ننماخ- المعبد العظيم وخصص للإلهة ننماخ" ص66 وتخاطب الوجدان والعاطفة تارة آخرى
تقوم الرواية التاريخية بالاستناد على المادة التاريخية كرافد اساسي الذي ينهل منه الكاتب وتحيى من خلال الخطاب السردي التخيلي التي يميزها عن الخطاب التاريخي
يخاطب الحاضر من خلال الماضي، فالحاضر غير منقطع الصلة بالماضي ، والرواية التاريخية تعيد الاعتبار الى الماضي والتاريخ
ان رواية( رسول بابل الاخير ) وما تحويا من مضمون عميق ، تقوم على بنية زمنية تاريخية، الزمن في الرواية زمن خطي تتابعي مستقيم يسير في اتجاه واحد من البداية الى النهاية، تتشخص في فضاء تاريخي، يمتد من الماضي وحتى اللحظة الراهنة تضيئه احداث تحييها شخصيات انسانية فنية، اتاح لها العودة الى الماضي والعمل على تأصيله ، كما انها حملت الماضي الى الحاضر بعد ان أعادت فيه الحركة والحيوية والحياة والتجدد
الخيط الذي يشد الرواية الى التاريخ عبر اشتراكهما بالقصة او الطابع القصصي ، حيث يروي لنا قصة خلق الانسان عند السومريين على لسان الكاهن (ناجايد)..
ان التاريخ جنس غير أدبي ، تم تطويعه في النص الروائي المعاصر كتقنية سردية حديثة ، وحدوث التزاوج بينهما وننشأ ما يسمى ب" الرواية التاريخية"
حاول الكاتب في روايته التي تتخذ من الواقع التاريخي مجالا ابداعيا تعبر عن أحداثه وشخوصه برؤية واعية يتفاعل فيها الماضي مع الحاضر
المكان
يلعب المكان دورا هاما في البناء الفني للرواية ، فوصف محيط الحوادث يساهم بشكل أو بآخر في اعطاء نظره شاملة عن الرواية.
أولى الكاتب (المكان) في روايته التاريخية أهمية كبيرة حيث يقوم بوصف الاماكن والقصور والحدائق والمعابد بشكل مباشر.
" كانت كفوف المساء الحمراء تمسح أجفان المدينة العاشقة، وتبعث أجنحة الفراشات المتطايرة قطرات شفافة من العطور السحرية التي أتت بها من المروج والحدائق المنتشرة عند أطراف بابل، فترى الأرض كأنها قد لبست ثوبها الأخضر، وتزينت السماء بإشراقات صافية وسحاب متناثر كأنه عقد لؤلؤ انقطع خيطه فتبعثرت حبّاته في الفضاء" ص 144
يعد المكان في هذه الرواية هو البطل ،"انه الأرض والتاريخ" فالمكان هو الذي يحتوي الزمان ويحدده ويؤطره ،ويعد العمود الفقري الذي يربط أجزاء النص الروائي ، يستقي المؤلف مادته من المراجع التاريخية المختلفة الاماكن لدى الروائي مرتبطة بالتاريخ وهي ليست أمكنة عامة غير محددة المعلم ، بل هي أمكنة تاريخية لها دلالاتها ،وتتجلى فاعلية المكان بمحاولة الروائي تحويله الى اداة للتعبير ومحددا اساسيا للمادة الحكائية والمكون الرئيس للرواية . توزع الحدث بين أكثر من مكان في مدينة بابل فيعرض لنا حضارة البيئة البابلية وقوانينها وشكلها لمعماري وما يحمل ذلك البناء من رموز وايحاءات ، فالمكان هنا ليس مجرد حيز هندسي وانما مكان تخييلي يبنى لإداء وظائف تخيلية يسهم في تشكيل الفضاء الروائي وفي خلق المعنى على المستوى الدلالي ، وبهذا المعنى يتحول المكان الى بعد جمالي من ابعاد النص السردي .