رؤية
مناوبة
بواسطة fairy touch, 14th April 2016 عند 02:57 PM (704 المشاهدات)
(مناوبة )
*********
الجو رمادي يميل الى القضاء على آخر لون ٍ للنور الذي كتم الغيمُ الباكي بشدة انفاسَه طوال اليوم ...
الساعة الاخيرة من نهارٍ كئيب ...
اسندت وجهها الى كفها ...و سددت نظرة الى الفراغ ..لم يكن من فوضى ..و كأن كل الاشياء اتفقت اخيرا ً على ان تحتكم الى الهدوء ....
امام مكتبها ..اصطفت عشرة اسرة بمفارش بيضاء في ردهة الطوارىء الطويلة ...كلها فارغة ما خلا سريرين بمريضين هادئين ...
لم يبق على انتهاء نوبة عملها سوى ساعة واحدة ...كانت تفكر في المطر الغزير في الخارج ..في كيفية حصولها على سيارة اجرة لتعود الى منزلها ...
الساعة تعلن الخامسة ..تشق الهدوء برنة لا تلائم موقعها في ردهة للطوارىء.
فجأة ..يشق الهدوء اصوات رصاص متوال ٍ...و صفارات سيارات عسكرية ...تقترب الضجة من الباب الخارجي .......تنكمش ملامحها ...و قلبها ...كانت تأمل ان ينتهي الامر بهدوء لتغادر ..
تأففت ..و نهضت لتستقبل القادم ..ارتدت صدريتها البيضاء فوق فستانها الاسود ...و مشت باتجاه الباب ...رافقها ممرضان بسرعة ..
في الباب مجموعة من الجنود و جريح ...يوجه اليها احدهم السؤال :
- وين الدكتور ؟
ترد ببرود : - آني .
يعترض الجندي : - انت دكتورة .
تجيبه :- نفس الشي .
يعلو صوته بنفاذ صبر : يمعودين ماكو دكتور ؟
تجيبه و هي تعض على كلماتها : مو گتلك آني الدكتور هنا ... شنو القضية ..؟
- ويانا جريح ..انت ِ تعالجيه !!
- اي نعم ...دخلوه للردهة ..
ينظر الجنود الى بعضهم باستغراب ...و يتقدمون الى احد الاسرة لوضعه ...تسمع احدهم يقول : - خل تعالجه ..عساه بالوجع ..و بالموت ...
تنظر اليه بغضب ...فيستطرد : هذا ارهابي مجروح.
ترد و بنفس الغضب : حتى لو ارهابي ..شنو تگول عساه بالموت ...لعد شكو جايبيه تعالجوه ...بعدين هنا الكل سواسية ...مرضى و يستحقون العلاج ...ارهابي مو ارهابي ..مو قضيتنا هسة .
يعتصر قلبها ...تشنقها ياقة قميصها الاسود ...يصرخ في داخلها صوت : كاااذبة ...كاااذبة ..
لعنت كل شيء و هي ترتدي قفازاتها المطاطية ...و اولها حظها العاثر الذي أبى الا ان ينهي المناوبة بأرهابي لتعالجه ...
اقتربت من السرير ...كان الممرضان قد ازالا الملابس عن الجرح الغائر في الساق ...و باشرا بتنظيفه ...لم تنظر الى وجه الرجل ...حاولت ان تنسى ما قيل عنه ...مدت يدها الى جرحه لتتلمسه و تتأكد انه ما من رصاصة فيه ...فصرخ فيها
: عوفوني ...منو گال الكم اريد احد يعالجني ...عوفوني ..ما اريد اعيش ...اريد اموووت ..اريد اموووت .
كان يصرخ بأعلى ما امكنه ...
اقترب منه الجندي و عاجله بصفعة على وجهه و صرخة : - ( انچب لك) ........انهمر بعدها سيل من الشتائم ..
رفعت رأسها نحو الجندي ..و بهدوء طلبت اليه ان يبتعد ...لكي يعملوا ...قالت له الا يتدخل حتى تناديه ..
بدأ الثلاثة في معالجة الانسجة الممزقة ...و مريضهم ما زال يصرخ : اريد اموووت ..عوفوني ...
ما زالت تعاند النظر الى وجهه ...كلما همت بذلك تذكرت وجه اخيها الملوث بالدم ...محجراه الغائران ...و ملابسه الكاكية المطرزة باللون الاحمر ...تُرى أي يد شبيهة بيد هذا النازف امتدت اليه و نزفت دمه !؟
كانت تخاف ان تفعل به ما هو اشد من الصفعة و الشتائم ان نظرت اليه ...ما تزال حياته بيدها ...فكرت بهذا و هي تخيط شريانه النازف بغزارة ...
صرخ موجها ً كلامه اليها : انت ما دا تسمعين ...طرشة ...ما عندچ احساس ...كااافي ..ما اريد اعيش ..اكرهكم ...كلكم مجرمين .
التفتت اليه مع اكمالها خياطة جرحه ..خلعت قفازها و نظرت في وجهه ..و حين التقت عيناهما ..توقف قلبها عن النبض لبرهة ...فما وراء اللحية الكثة و البشرة القذرة و الشعر الهائج ...كمُنت ملامح ُ تعرفها ....تذكرها ...
زميل الدراسة الهادىء الساكن .. ..هو ..
هو ...بلا ادنى شك ..
طافت الذكريات البيضاء في خيالها ...زملاؤها و هو يتوسطهم ..بزيه الملائكي و وجهه العطوف ...
صفعتها الذكرى ...
عاد يواجهها مصرا ً : انت ِ مو من حقچ تفرضين علي اعيش غصبا ً عني .
- اهدأ دكتور ...اني زميلتك قبل كل هذا ....لو نسيت ؟.ما الها حوبة السنين و العشرة ...و العلم و الطب ...شمسوي بنفسك انت ؟
- لا اعرفچ و لا اتذكر الزمالة ...لوبيدي هسة حزام ناسف و انهيكم كلكم ...منو ينطيني حزااام ..يا رجّال ...بس انتو جبناء ..جبناء ..ما بيكم رجّال .
تململ الجنود في وقفتهم و وجوههم تقطر غضبا ً ...
نظرت اليه ...اليهم ...تراجعت نحو طاولة ادواتها الجراحية ... تناولت مشرطا ً ..و ناولته اياه ببرود ...
- يالله ...تفضل يا حضرة الرجل الوحيد في مشهدنا .
و وقفت تنظر اليه ببرود ...
مد المشرط نحو رسغه ...كان يرتجف ...خدش جلده بخوف ...و اسقط المشرط ..
استدارت ..مشت نحو الجنود ..و اشارت بيدها كناية عن اكمال دورها ...
خاطبها احدهم : هذا جرح ايده ...
لم ترد سوى بإيماءة ...و صوت في صدرها يردد :
( ما لجرح ٍ بميت ٍ ايلام ُ)
خلعت صدريتها ...التحفت بسوادها و اندست تحت لحاف المطر حين اعلنت الساعة نهاية مناوبتها .