مدونة جبير (العارضي)
عاشوراء انتصار الدم على السيف
بواسطة جبير العارضي, 9th November 2015 عند 08:47 AM (567 المشاهدات)
تطل علينا عاماً بعد عام، ذكرى عاشوراء، ذكرى انتصار الدم على السيف، ذكرى انتصار العزة والكرامة على الظلم والغطرسة، ذكرى استشهاد سبط الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) مع نفر من أهل بيته وصحبه، في العاشر من شهر المحرم الحرام عام 61 للهجرة.
عقود مرت على تلك الفاجعة الأليمة عندما سالت الدماء الطاهرة من سبط خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) على أرض كربلاء وما شهدته تلك الفجيعة المأسوية من قتل وسبي وتعذيب على أهل بيت النبوة، لتسجل بذلك ملحمة عاشوراء رسالة خالدة إلى قيام الساعة. فظاعة هذه الواقعة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، يصفها لنا أحد أئمة أهل البيت، الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في حديث له مع الريان بن شبيب، عندما قال: «إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا. إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء. يا بن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين عليه السلام...».
لقد جسدت ملحمة عاشوراء أروع نهج للبشرية جمعاء على مر التاريخ والعصور، عندما جمعت أسمى وأنقى وأروع المآثر الإنسانية في الجود والإيثار والتضحية والشجاعة والعطاء، والتي خلدت انتصار إرادة الخير على الشر.
وقد تجلى البعد الديني والإنساني لعاشوراء في ما حققته ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) من حفظ المبادئ الحقة للإسلام بعد أن وصل الانحراف عن الدين الإسلامي إلى ذروته، واستشرى الفساد بأطنابه وبات الطغيان متجذرا بشكل لا يصلح معه إلا القيام بثورة إصلاحية شاملة تجسدت في النهضة الحسينية التي كانت عبارة عن تطبيق عملي لكيفية الثورة على الطغيان، وهو ما أشار إليه الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله: «لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي».
إن عاشوراء مدرسة، نستلهم منها ومن فيوضاتها كل المعاني الإنسانية النبيلة، وأسمى مصداق لتلك المعاني النبيلة ما هو مرتبط بالكرامة الإنسانية. فقد علمتنا هذه المدرسة أن الإنسان أوالمجتمع الذي تمتهن كرامته ليس جديراً بالاحترام ولا بالعيش الكريم! بل يجب عليه العمل الحثيث لصيانة كرامته المهدورة والذود عنها، وإن تطلب ذلك الدفاع بالنفس في سبيل صون هذه الكرامة. يقول الإمام الحسين (عليه السلام) مخاطباً أعداءه: «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر منكم فرار العبيد». ويقول (عليه السلام): «الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار».
وتزخر الملحمة العاشورائية بفيض كثير من القيم المعنوية، إذ رسمت لنا المعالم الأساسية لنبذ الجاهلية والثورة على العصبية، وحددت لنا السبل الكفيلة للتمرد على التخلف والعبودية والضلال، وأرست لنا العناوين القادرة على تحديد الطغاة في كل زمان ومكان، أضف إلى ذلك أن ملحمة عاشوراء كانت مصداقاً لرفض الهيمنة والتسلط والاستكبار والاستعباد من قبل القوى المهيمنة والمسيطرة على زمام الأمور العسكرية والاقتصادية والسياسية يوم ذاك!
اليوم نرى كيف أن التاريخ يعيد نفسه، وكيف أن عاشوراء تتجدد عاماً بعد عام، لكن مع اختلاف الزمان والمكان والشخصيات! اليوم نرى كيف أن قوى الاستكبار في العالم باتت تمتلك بيدها القوة العسكرية والاقتصادية وأنها باتت تسيطر بشكل مباشر على مقدرات الشعوب المستضعفة والمغلوب على أمرها. اليوم نرى كيف تسعى هذه القوى بغطرستها واستكبارها وبأسلوب الترهيب والإكراه على تركيع وإخضاع وإذلال كل من يقف أمام جبروتها المتنامي، إلا أن مدرسة عاشوراء كانت ومازالت السد المنيع أمام تنامي قوة هذا الجبروت!
فها هي المقاومة الإسلامية في لبنان الصمود التي جعلت من عاشوراء الحسين (عليه السلام) نهجاً وعطاء تنهل من فيضه المبارك، والتي رفعت شعار «انتصار الدم على السيف»، هي نتاج مباشر لمدرسة عاشوراء. فحسب الموازين «العقلية» و«المادية»، لا تستطيع مجموعة قليلة الوقوف أمام أشرس كيان في الشرق الأوسط وخامس أكبر قوة عسكرية في العالم من غير دعم وعتاد عسكري أومالي! إلا أن المقاومة الإسلامية في لبنان استحضرت روح عاشوراء وفلسفة الثورة الحسينية وثقافة فكرة «انتصار الدم على السيف» لتجعل منها الأساس الذي تنطلق منه، إذ ان منطق التاريخ، الذي أرست معالمه ملحمة عاشوراء، يقول إن الاحتلال لا يواجه إلا بمنطق المقاومة. وها هو «الشر المطلق» بكامل جبروته وقوته وغطرسته العسكرية والنووية والاقتصادية، ناهيك عن دعم قوى الاستكبار المباشر له، قد انهزم في لبنان على يد أبناء هذه المدرسة المباركة شر هزيمة في عدوان يوليو من العام 2006.
اليوم جئنا ونحن نقف عند مدرسة عاشوراء، عند مكمن الثروات الروحية والعرفانية والإنسانية، لنجدد لها الولاء والبيعة بعد أن باتت مشعلاً ينير درب الأحرار، ينتصرون به على الظلم والطغيان والقهر والاستبداد. فقد برهن الإمام الحسين (عليه السلام) للعالم أجمع أن كبرياء الدم باستطاعته أن ينتصر على جبروت السيف، وأن عاشوراء التي بذل فيها الحسين (عليه السلام) الغالي والنفيس ستبقى صرخة مدوية في ضمير الإنسانية ومناراً للروح، رغم أنف الطغاة والمستكبرين.
إن ملحمة عاشوراء ليست فقط سيرة وتاريخ، وإنما هي أيضاً موقف ومنهج وعطاء، هي عنوان الصراع بين الخير والشر، بين الحب والكراهية بين الحق والباطل بين العلم والجهل، هي مدرسة تمد الأجيال كلها عبر العصور بعطائها الخالد الذي لا ينضب.
فالسلام عليك يا سيدي ومولاي يا أبا عبد الله الحسين، وعلى جميع الأرواح التي حلت بفنائك، عليك مني سلام الله أبدا ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم، السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
تبكيك عيني لا لي اجلي مثوبتاً لكنما لاجلكا باكيه..