مدونة الكاتب حسن سعيد

حوار مع العراق

التقييم: الأصوات 2, بمعدل 5.00.
بواسطة د. حسن سعيد, 26th February 2015 عند 07:51 PM (869 المشاهدات)
"حوارٌ مع العراق"
ذات يومٍ كنتُ أمشي في أحد الطُرُقات ، استوقفني شخصٌ نحيلٌ ، كان وجهُهُ شاحباً من التعب ، عيناهُ قد غارتا في محجريهما من شدّة البكاء .
خاطبني بنبرةٍ سوداء ، سألني قائلاً : (الى أين تذهب يا فتى ؟) ، فأجبتُهُ : (الى الكلّيّة ) ، فقال سائلاً : (وهل أنت طالبٌ في الكلّيّة ؟) ، فقلتُ لهُ : (نعم أنا طالبٌ في كلّيّةِ الحقوق) ، فسأل مندهشاً : (الحقوق !) ، أجبتهُ : (نعم الحقوق ولِمَ العجب ؟) ، فابتسم ثُمّ أطرق رأسه قليلاً وقال : (وهل توجد حقوقٌ هنا ؟) ، فأجبتهُ مبتسماً : (نعم توجد حقوق) ، .
بقي الرجلُ صامتاً لبعض الوقت وحينما أردتُ أن أتركهُ وأذهب صرخ بصوتٍ مرتفع : (توقف أيها الشاب ، ماذا دهاك مسرعاً اليوم ؟) ، قلتُ عذراً سيّدي لقد اقترب وقت المحاضرات ولا أستطيع التأخّر عنها ، اسمحلي أن أذهب ، قال : (حسناً بُنَي ، سأدعُك تذهب لكن أريد أن أسألك سؤالاً ؟) ، قلتُ : (تفضل سيّدي ) ، قال : (هل عرفت من أكون ؟) ، قلتُ : (لا يا سيّدي لم أعرفك عذراً) ، فكرر سؤالهُ بصوتٍ مرتفعٍ غاضب : (ألم تعرفني ؟) ، فأعدتُ جوابي مستغرباً : (لا يا سيّدي لم أعرفك ، ولكن لِمَ الغضب ؟) .
عندها إمتلأت عيناهُ بالدموع وتحدث بنبرةِ رجلٍ حزينٍ مكسور : (حسناً يا ولدي سوف أخبرك : أنا بسمةُ طفلٍ سرقها الموت ، أنا حلمُ أسرةٍ بالعيشِ بسلامٍ قتلهُ النزوحُ والتهجير ، أنا دمعةُ أُمٍّ ثكلى بولدها الشهيد ، أنا قلبُ حبيبٍ قد تقطع لمّا مات حبيبهُ ، أنا روح زوجةٍ ودّت لو أنّها فارقت جسدها يوم قتل زوجها ، أنا كسرةٍ رجلٍ تجرّع الألم بفقدانهٍ من يحبهم ، أنا جرح انسانٍ ضاع حقُّهُ المغتصب ، أنا وطنٌ دُمّرت حضارتُهُ وسُلبت آثارُه ، أنا أرضٌ انتُهِكت حرماتها وقُتل أصحابُها وشُرِّد سُكانُها وسُرِقت ثرواتُها واستُبيحت كرامتُها ، بعد كل ذلك هل عرفتني ؟ هل قرأت اسمي في جوابي ؟ هل عرفت حقاً من أكون ؟) ،
حينها أجبتهُ بصوتٍ منكسرٍ مخفوض : (نعم سيّدي لقد عرفتك ، أنت وطني الذي أعيش في كنفه ، أنت من أعتاش من خيرات أرضه ، أنت العراق الذي بكت عينُ كلُّ ذي مروءةٍ لِما جرى على أبنائه وندي جبينُ كلُّ ذي انسانيةٍ لمّا سمع بمصائبه) .
حينها أطرق قليلاً ثم قال : (نعم بُنَي أنا مهدك ومهد أبيك وجدك ، نعم بُنَي أنا العراق ، أنا بلد الأنبياءِ والأئمة والمقدسات ).
ثم سكت للحظة وقال : (أريدُ منك وعداً فهل تعدني ؟) ، فقلتُ : (بِمَ أعدُك سيّدي ؟) ، فأجاب : (عدني بألّا تنساني ، عدني بأن تحفظ حقوق الآخرين ولا تتجاوز عليها ، عدني بأن تكون عوناً للمحتاجين كما كان أبوك العراقُ عوناً لإخوانه العرب ، ولكن احذر لا تكن مثلي ، لا تأمن الخائنين كما فعلتُ أنا وغدروا بي ، كن يقضاً ولا تغفُ عيناك للحظة فأعداءُك كثرٌ يريدون بك الوقوع في الهاوية ، انتبه في حياتك وتوقع الشدائد وتحضر لها ، فهل تعدني بكلِّ ذلك يا بُنَي ؟) ، فقلتُ : (نعم أعدك بذلك) ، فقال : (طلبٌ أخيرٌ منك قبل أن أدعك ترحل عنّي وأريدك أن تعدني به) ، قلتُ : (وما طلبك يا أبتي ؟) ، قال : (عدني بأن تحكي قصّتي للناس وأن تريهم ما فعل الأشرارُ بي وكيف مزقوا جسدي الواحد ارباً ارباً ، عدني أن تنصح اخوانك وأبناء وطنك وتحذرهم من آفة العنصرية والتقسيم ولا تدع لعدوك مجالاً للهجوم على صديقك فكما يفتك به اليوم سيفتك بك غداً ، فهل تعدني بهذا يا فتى ؟) ، قلت لهُ : (نعم نعم يا أبتي أعدُك بذلك) ، قال (إذن تفضل واذهب الى محاضراتك واجتهد في دراستك سوف أنتظرك حينما تتخرج لتعينني فأنا أحتاجك وأحتاج الشبابُ أمثالك ) ،.
عندها قلت لهُ (حسناً اسمح لي بالذهاب سوف أعمل وأبذل جهدي لأكون عموداً تتكئُ عليه حينما يصيبك التعب وينال منك النَصَب ، الى اللقاء) ، مشيتُ عنهُ مسرعاً وتحاشيت النظر اليه كي لا تصُب عيناي دموعاً من الألم فأبقى في مكاني لا أستطيع الحراك ، لكنه انتبه الي فصرخ بصوتٍ مرتفع : (لا تركض يا فتى ، احذر أن تسقط في الطريق ، هل تريد أن تصاب بأذا ؟) ، توقفت للحظةٍ مندهشاً مما قاله وأدركت ما قاله لي عن الحذر فسرت سيراً طبيعياً ووصلت الى الكليةِ والحمد لله لم أتأخر عن موعد المحاضرات .
"بقلمي"
الكلمات الدلالية (Tags): حوار مع العراق
التصانيف
غير مصنف

التعليقات

  1. الصورة الرمزية ملاك96
    حارت كلماتي كيف تصف هذا الحوار المُنسَوج من حروف الألم والدموع الممزوجة بأمل رغم ألمها .. حقاً كلماتي خَجِلةٌ من أن توضع مع ما خططته من كلمات في قمة الروعة بصياغة متقنة و أسلوب شيق و شجي ..
    أُحييك أخ حسن على هذه القدرة الرائعة في الكتابة .

    أحسنت
  2. الصورة الرمزية حہيہدر الہبغہداديہ
    يؤلمني........
    أخشـــى أن يطلـــب الطبيـــب تخطيــــط قلــــب فـي فحوصاتـــي ..
    أخـــاف أن ترســـم الإشــارآت ملامــحـــكِ أو ربمــــا ( إسمُـــــكِ ) .. وتُفضـــح ( مكابرتــــي )


  3. الصورة الرمزية أشجان الروح
    كلمات تحاكي واقع مر بقطرات آلم وشجن
    سلمت الأنامل لما خطت ولاعدمت
    اخي احسنت رووووعه
  4. الصورة الرمزية د. حسن سعيد
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ملاك96
    حارت كلماتي كيف تصف هذا الحوار المُنسَوج من حروف الألم والدموع الممزوجة بأمل رغم ألمها .. حقاً كلماتي خَجِلةٌ من أن توضع مع ما خططته من كلمات في قمة الروعة بصياغة متقنة و أسلوب شيق و شجي ..
    أُحييك أخ حسن على هذه القدرة الرائعة في الكتابة .

    أحسنت
    هذه شهادةٌ أفتخرُ بها من شخصٍ مثلكِ يجيد الكتابة بأسلوبٍ رائعٍ يصعب وصف ما يخخط إن لم يستحِل ذلك .
  5. الصورة الرمزية د. حسن سعيد
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حيدر البغدادي1
    يؤلمني........
    أخشـــى أن يطلـــب الطبيـــب تخطيــــط قلــــب فـي فحوصاتـــي ..
    أخـــاف أن ترســـم الإشــارآت ملامــحـــكِ أو ربمــــا ( إسمُـــــكِ ) .. وتُفضـــح ( مكابرتــــي )


    ممتنٌ لمرورك العطر وكلماتك الرقيقة الشفافة التي أنرت بها الموضوع فتحيةٌ لك من القلب أيها المبدع .
  6. الصورة الرمزية د. حسن سعيد
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Heart rose
    كلمات تحاكي واقع مر بقطرات آلم وشجن
    سلمت الأنامل لما خطت ولاعدمت
    اخي احسنت رووووعه
    جزيلُ الشكرُ لمروركم وكلماتكم الراقية التي عطرتم بها المقال ، لكم ودي واحترامي .
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال