مدونة الكاتب حسن سعيد
حوار مع العراق
بواسطة د. حسن سعيد, 26th February 2015 عند 07:51 PM (868 المشاهدات)
"حوارٌ مع العراق"
ذات يومٍ كنتُ أمشي في أحد الطُرُقات ، استوقفني شخصٌ نحيلٌ ، كان وجهُهُ شاحباً من التعب ، عيناهُ قد غارتا في محجريهما من شدّة البكاء .
خاطبني بنبرةٍ سوداء ، سألني قائلاً : (الى أين تذهب يا فتى ؟) ، فأجبتُهُ : (الى الكلّيّة ) ، فقال سائلاً : (وهل أنت طالبٌ في الكلّيّة ؟) ، فقلتُ لهُ : (نعم أنا طالبٌ في كلّيّةِ الحقوق) ، فسأل مندهشاً : (الحقوق !) ، أجبتهُ : (نعم الحقوق ولِمَ العجب ؟) ، فابتسم ثُمّ أطرق رأسه قليلاً وقال : (وهل توجد حقوقٌ هنا ؟) ، فأجبتهُ مبتسماً : (نعم توجد حقوق) ، .
بقي الرجلُ صامتاً لبعض الوقت وحينما أردتُ أن أتركهُ وأذهب صرخ بصوتٍ مرتفع : (توقف أيها الشاب ، ماذا دهاك مسرعاً اليوم ؟) ، قلتُ عذراً سيّدي لقد اقترب وقت المحاضرات ولا أستطيع التأخّر عنها ، اسمحلي أن أذهب ، قال : (حسناً بُنَي ، سأدعُك تذهب لكن أريد أن أسألك سؤالاً ؟) ، قلتُ : (تفضل سيّدي ) ، قال : (هل عرفت من أكون ؟) ، قلتُ : (لا يا سيّدي لم أعرفك عذراً) ، فكرر سؤالهُ بصوتٍ مرتفعٍ غاضب : (ألم تعرفني ؟) ، فأعدتُ جوابي مستغرباً : (لا يا سيّدي لم أعرفك ، ولكن لِمَ الغضب ؟) .
عندها إمتلأت عيناهُ بالدموع وتحدث بنبرةِ رجلٍ حزينٍ مكسور : (حسناً يا ولدي سوف أخبرك : أنا بسمةُ طفلٍ سرقها الموت ، أنا حلمُ أسرةٍ بالعيشِ بسلامٍ قتلهُ النزوحُ والتهجير ، أنا دمعةُ أُمٍّ ثكلى بولدها الشهيد ، أنا قلبُ حبيبٍ قد تقطع لمّا مات حبيبهُ ، أنا روح زوجةٍ ودّت لو أنّها فارقت جسدها يوم قتل زوجها ، أنا كسرةٍ رجلٍ تجرّع الألم بفقدانهٍ من يحبهم ، أنا جرح انسانٍ ضاع حقُّهُ المغتصب ، أنا وطنٌ دُمّرت حضارتُهُ وسُلبت آثارُه ، أنا أرضٌ انتُهِكت حرماتها وقُتل أصحابُها وشُرِّد سُكانُها وسُرِقت ثرواتُها واستُبيحت كرامتُها ، بعد كل ذلك هل عرفتني ؟ هل قرأت اسمي في جوابي ؟ هل عرفت حقاً من أكون ؟) ،
حينها أجبتهُ بصوتٍ منكسرٍ مخفوض : (نعم سيّدي لقد عرفتك ، أنت وطني الذي أعيش في كنفه ، أنت من أعتاش من خيرات أرضه ، أنت العراق الذي بكت عينُ كلُّ ذي مروءةٍ لِما جرى على أبنائه وندي جبينُ كلُّ ذي انسانيةٍ لمّا سمع بمصائبه) .
حينها أطرق قليلاً ثم قال : (نعم بُنَي أنا مهدك ومهد أبيك وجدك ، نعم بُنَي أنا العراق ، أنا بلد الأنبياءِ والأئمة والمقدسات ).
ثم سكت للحظة وقال : (أريدُ منك وعداً فهل تعدني ؟) ، فقلتُ : (بِمَ أعدُك سيّدي ؟) ، فأجاب : (عدني بألّا تنساني ، عدني بأن تحفظ حقوق الآخرين ولا تتجاوز عليها ، عدني بأن تكون عوناً للمحتاجين كما كان أبوك العراقُ عوناً لإخوانه العرب ، ولكن احذر لا تكن مثلي ، لا تأمن الخائنين كما فعلتُ أنا وغدروا بي ، كن يقضاً ولا تغفُ عيناك للحظة فأعداءُك كثرٌ يريدون بك الوقوع في الهاوية ، انتبه في حياتك وتوقع الشدائد وتحضر لها ، فهل تعدني بكلِّ ذلك يا بُنَي ؟) ، فقلتُ : (نعم أعدك بذلك) ، فقال : (طلبٌ أخيرٌ منك قبل أن أدعك ترحل عنّي وأريدك أن تعدني به) ، قلتُ : (وما طلبك يا أبتي ؟) ، قال : (عدني بأن تحكي قصّتي للناس وأن تريهم ما فعل الأشرارُ بي وكيف مزقوا جسدي الواحد ارباً ارباً ، عدني أن تنصح اخوانك وأبناء وطنك وتحذرهم من آفة العنصرية والتقسيم ولا تدع لعدوك مجالاً للهجوم على صديقك فكما يفتك به اليوم سيفتك بك غداً ، فهل تعدني بهذا يا فتى ؟) ، قلت لهُ : (نعم نعم يا أبتي أعدُك بذلك) ، قال (إذن تفضل واذهب الى محاضراتك واجتهد في دراستك سوف أنتظرك حينما تتخرج لتعينني فأنا أحتاجك وأحتاج الشبابُ أمثالك ) ،.
عندها قلت لهُ (حسناً اسمح لي بالذهاب سوف أعمل وأبذل جهدي لأكون عموداً تتكئُ عليه حينما يصيبك التعب وينال منك النَصَب ، الى اللقاء) ، مشيتُ عنهُ مسرعاً وتحاشيت النظر اليه كي لا تصُب عيناي دموعاً من الألم فأبقى في مكاني لا أستطيع الحراك ، لكنه انتبه الي فصرخ بصوتٍ مرتفع : (لا تركض يا فتى ، احذر أن تسقط في الطريق ، هل تريد أن تصاب بأذا ؟) ، توقفت للحظةٍ مندهشاً مما قاله وأدركت ما قاله لي عن الحذر فسرت سيراً طبيعياً ووصلت الى الكليةِ والحمد لله لم أتأخر عن موعد المحاضرات .
"بقلمي"